للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح الله لصدر نبيه]

قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:١] قال أهل التفسير: الاستفهام هنا للتحقيق، أي: أن حرف الاستفهام وهو (الهمزة) إذا دخلت على (لم) النافية فإنه يراد بها التحقيق، كما في قول الله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:٨]، وكما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:٤٠]، وكما في قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح (ألم نشرح لك صدرك) بلى، قد شرح الله له صدره.

قال أهل التفسير: المعنى: ألم نوسع لك صدرك؟ ألم نفسح لك في صدرك؟ قال أهل التفسير: ومن شرحه لصدر نبيه صلى الله عليه وسلم: أن صدره وسع علوم الأولين والآخرين، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (أوتيت جوامع الكلم)، أي: يجمع المعنى الغزير في اللفظ اليسير.

وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضوان الله عليهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت صوتاً يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فجاءني ملكان ومعهما طست فيه ماء زمزم، فشرحا صدري إلى أسفل بطني) أي: شقا صدره صلوات ربي وسلامه عليه.

والحديث أيضاً عندما الإمام أحمد عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان أبو هريرة جريئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن أشياء لا يسأل عنها غيره.

قال مرة: يا رسول الله! ما أول نبوءتك؟ قال: فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً وقال: إني في الصحراء ابن عشر سنين وأشهر -يعني: كان عمره صلوات ربي وسلامه عليه عشر سنوات وشهور- إذ رأيت ملكين بأرواح فاستقبلاني بوجوه لم أراها لخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أجدها على أحد من خلق الله قط، قال أحدهما للآخر: أهو هو؟ قال: نعم.

قال: فأخذ كل منهما بعضدي لا أجد لأحدهما مساً، فقال أحدهما للآخر: أضجعه فأضجعاني، ثم قال: افلق صدره، ففلق صدري من غير وجع ولا دم، ثم استخرجا منه مثل العلقة.

قال: أخرج الغل والحسد، ثم قال: أدخل الرقة والرحمة، فأدخلا شيئاً شبيه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى، وقال: اغدو واسلم رحمة للصغير ورقة للكبير).

قال العلامة الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله: ومن شرح الصدر الممتن به على نبينا صلى الله عليه وسلم: ما آتاه الله عز وجل من صبر وحلم وصفح ورقة، حتى أنه كان ليعامل العدو اللدود معاملة الصديق الصدوق، وهذا ظاهر في سيرته صلوات ربي وسلامه عليه لما غزا ثقيفاً، وأصيب عدد من أصحابه وما استطاعوا أن يفتحوا حصونها، ولما استحر فيهم القتل رضي الله عنهم وأوجعوا قالوا: (يا رسول الله! ادع على ثقيف، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم)، فدعا بذلك ثلاث مرات فجاءت قبيلة ثقيف كلهم مؤمنون مسلمون.

وكذلك لما جاء أبو هريرة رضي الله عنه يبكي قال صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟ قال: يا رسول الله! أمي دعوتها إلى الإسلام فأسمعتني فيك ما أكره، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال: اللهم اهد أم أبي هريرة، اللهم اهد أم أبي هريرة).

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فانطلقت أعدو والباب مجاف، وسمعت صوت خضخضة الماء، قالت أمي: على رسلك يا أبا هر! ثم خرجت إلي وقد عجلت عن خمارها، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

فنبينا عليه الصلاة والسلام اتسع صدره حتى شمل العدو المخالف مع المؤمن الموافق، وكان صدره عليه الصلاة والسلام فسيحاً بنعمة الله عز وجل، ومثلما آتاه الله صدراً منشرحاً آتاه شريعة سهلة ميسرة لا تشق على شيخ كبير، ولا شاب صغير، ولا امرأة عجوز، ولا فتاة محدثة، وإنما الكل يجد في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ما يناسبه وما يصلح دنياه وآخرته.