للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين)]

قال الله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:٥ - ٦].

هنا للمفسرين قولان: الأول: قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:٥]، قالوا: أي: إلى أرذل العمر، واستدلوا على ذلك بالآيات التي تناولت تلك الحال، كقول الله عز وجل: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:٦٨].

وقول الله عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:٧٠].

وقول الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:٥٤] لكن الإشكال في الاستثناء، وذلك أن الله عز وجل قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:٥] أي: إلى أرذل العمر، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:٦] فهل الذين آمنوا مستثنون؟ يقول الشيخ العلامة عطية رحمة الله عليه في أضواء البيان: فيكون الاستثناء راجعاً إلى حال المؤمنين الذين إذا تقدم بهم العمر فإنهم لا يعانون خرفاً ولا هذياناً.

قال: وقد تواتر عند الخاصة والعامة أن حافظ القرآن المداوم على تلاوته لا يصيبه الخرف.

هذا شائع حقيقة بين الناس، وإن لم يكن هناك نص يؤيده، لكن عندنا الصالحون من عباد الله بلغوا من الكبر عتياً وبلغوا من العمر أرذله وهم في كامل قواهم العقلية.

فهذه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنها زاد عمرها على المائة وما سقط لها سن، ودخل عليها الحجاج الطاغية وهي في ذلك العمر وقد صلب ولدها عبد الله بن الزبير الصالح القانت العابد رضي الله عنه، فقال لها: إنك امرأة عجوز قد خرفت، قالت له: لا والله ما خرفت، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير -أي: سفاح- أما الكذاب فقد عرفناه -وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي - وأما المبير فما إخاله إلا أنت)، تقول هذا الكلام وهي فوق المائة، ثم أمر الحجاج بأن ينزل ولدها وأن يُسلم إليها، فقامت بتغسيله بنفسها وهي فوق المائة من عمرها، وحنطته وما عاشت بعده إلا أياماً رضي الله عنها وأرضاها.

وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه الذي بلغ من العمر تسعاً وتسعين سنة، وقيل: بل بلغ مائة سنة وسنة، ومع ذلك كان في كامل حضور ذهنه واستحضاره للأحكام، وكان يفتي الناس رضي الله عنه، وقس على ذلك خلقاً كثيرين.

والآن يوجد أناس طاعنون في السن قد صار لأولادهم أحفاد، ومع ذلك الواحد منهم في كل يوم يقرأ من القرآن عشرة أجزاء، لكنه يأكل ويشرب قليلاً، وليس له عمل يشغله إلا القرآن يعكف عليه، وينتظر أن يأتيه النداء من ربه فيجيب، فنسأل الله أن يحسن لنا الختام.

فالتفسير الأول لقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:٥] أي: إلى أرذل العمر.

أما التفسير الثاني لقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:٥] أي: النار، والعياذ بالله.

قال ابن القيم رحمه الله: وهذا التفسير هو الصحيح من وجوه: الوجه الأول: أن من يرد إلى أرذل العمر قليل من الناس، وأكثرهم يموت قبل ذلك.

الوجه الثاني: أن المؤمنين والكفار سواء في الرد إلى أرذل العمر.

الوجه الثالث: هذه الآية لها نظائر في القرآن، كقول الله عز وجل: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:٢٤ - ٢٥].

وكقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:١ - ٣].

إذاً: فرددناه أسفل سافلين، أي: إلى النار في أسفل سافلين، ومعلوم أن الجنة في أعلى عليين، ولعل هذا التفسير هو الصواب، والعلم عند الله تعالى.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: لما وصف الله الإنسان بهذه الصفات الزاكيات طغى وعلا حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] فجعله الله عز وجل مشحوناً قذراً مملوء النجاسة، وجعلها تخرج على ظاهره خروجاً منكراً على وجه الاختيار تارة وعلى وجه الغلبة تارة؛ من أجل أن يعرف قدره.

يعني: أن الإنسان يتعظ بما يخرج منه في الحمام من النجاسة، ولذلك قال القائل: يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته انظر خلاك فإن النتن تثريب لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر الكبر شبان ولا شيب وكما قيل: إن المهلب الذي كان قائداً من القواد العظام، جاء يمشي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب خز يتبختر، فقام له الناس إلا ابن أبي ذئب -وكان من نظراء مالك - كان جالساً ماداً رجليه، فجاء المهلب فقال له: أما عرفتني؟ قال: بلى عرفتك.

قال له: فلم لم تقم؟ قال له: لأني عرفتك.

قال له: فمن أنا؟ قال له: أنت أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل في جوفك العذرة.

فالله عز وجل جعل الإنسان سميعاً بصيراً متكلماً مريداً مدبراً مفكراً ناطقاً، لكن جعل في جوفه النجاسة من أجل أن لا يعدو قدره ويتكبر.

قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:٦] فهؤلاء الذين استثناهم ربنا.

قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:٦] أي: غير مقطوع، وهذه بشرى عظيمة.

قال ابن عباس: من واظب على عمل صالح في شبابه ثم عجز عنه عند الهرم أجرى عليه الله الأجر والثواب.

وليستبشر بذلك كبار السن الذين تعودوا على صلاة الجماعة وألفوا بيوت الله، وتعودوا صيام التطوع، وتعودوا كثيراً من الأعمال الصالحة، وعجزوا وما استطاعوا أن يأتوا إلى المسجد، وما استطاعوا أن يصوموا تطوعاً، بل ربما ما استطاعوا أن يصوموا رمضان، فإن الله يكتب لهم الجر والثواب، ولا ينقطع عنهم حتى يموتوا.