للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعوة إلى الله بالأقوال والأفعال]

ومن الدروس المستفادة من هذه الرحلة: أن العبد الصالح يدعو إلى الله عز وجل بأقواله وفعاله وسمته وهيئته، وهذا الأمر نستدل عليه من مرور النبي صلى الله عليه وسلم بخيمة أم معبد الخزاعية، وهي امرأة برزة جلدة، تحتبي بفناء الخيمة، وتطعم وتسقي من يمر بها، فإذا مر بها قوم مسافرون فإنها تطعمهم وتسقيهم، وهي امرأة معروفة بالكرم، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحباه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعبد الله بن أريقط فسلم عليها صلى الله عليه وسلم، ثم سألها: (هل من لبن فنشربه؟ أو لحم فنشتريه؟ فقالت له المرأة: فداك أبي وأمي، لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت)، تقول له: لو كان عندنا طعام أو شراب ما نحوجكم إلى أن تطلبوا، وإنما نكرمكم ابتداءً، لكن لا حلوبة في البيت، أي: ليس في البيت شاة تحلب، ثم إن الشاة التي تحلب هي في المرعى عازب، أي: بعيدة، (فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في ستر الخيمة -أي: في جانب الخيمة- فقال لها: ما هذه الشاة؟ قالت له: خلفها الجهد عن الغنم -يعني: هي مريضة- فقال لها: هل بها من حلب؟ -أي: هل فيها شيء يحلب؟ - قالت له: هي أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: فداك أبي وأمي! إن كان بها حلب فاحلب -يعني: طالما أنك لا تريد أن تصدق فجرب-، فدعا صلى الله عليه وسلم بإناء يربض الرهط -يعني: إناء كبير- فسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم الله عز وجل، ومسح على الضرع فتفاجت -أي: هذه الشاة فرجت بين رجليها-، فحلب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاً حتى علته الرغوة، ثم دفع الإناء إلى المرأة -إلى أم معبد أولاً- فشربت ثم سقى صاحبيه، ثم سمى الله عز وجل وشرب آخر القوم عليه الصلاة والسلام، ثم حلب فيه ثانية، فشربوا عللاً بعد نهل، ثم حلب فيه صلى الله عليه وسلم وخمره وقال: ارفعي هذا لـ أبي معبد، ثم سلم وانصرف، قال: فما لبثت إلا قليلاً، حتى أقبل أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوقن هزالاً لا نقي فيهن، فقال: ما هذا اللبن -يا أم معبد - والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟! قالت: لا والله! إلا أنه مر بنا رجل مبارك)، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تلا عليها قرآناً، ولا ألقى عليها خطبة، وإنما وصفته بالبركة بما رأت من حاله وكلامه وسمته وهيئته وفعاله صلوات ربي وسلامه عليه، فوصفته بأنه رجل مبارك، وكان من خبره كيت وكيت، فقال أبو معبد: صفيه لي يا أم معبد! فقالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، أبلج الوجه، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي عنقه سطع، وفي صوته صهل، وسيم قسيم، لم تعبه ثجلة، ولم تزريه صعلة، أجمل الناس وأحلاهم من بعيد، وأحسنهم وأبهاهم من قريب، إذا تكلم علاه البهاء، وإذا سكت علاه الوقار، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له أصحاب يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر ابتدروا أمره، محفود محشود، غير عابس ولا مفنَّد، فقال لها زوجها: والله! إنه لصاحب قريش الذي تطلب، ولأجهدن حتى ألحق به، ولأتابعنه على دينه.

أي: بمجرد أن رأوا من حاله وأفعاله صلوات ربي وسلامه عليه هذا الحال قال: لأجهدن حتى ألحق به، ولأتابعنه على دينه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة يعلمنا أن الإنسان يدعو إلى الله عز وجل بقوله وفعله وسمته وهيئته صلوات ربي وسلامه عليه.

ومما يستفاد من هذه القصة: حسن رعايته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في السفر، فلما حلب الشاة ما شرب اللبن صلى الله عليه وسلم، وما آثر نفسه، بل آثر أصحابه رضوان الله عليهم، وسقى أم معبد من أجل أن تزداد يقيناً، وأن تعلم حقاً أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.