للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القول بأن صلاة الجماعة سنة مؤكدة]

حكم صلاة الجماعة مختلف فيه: فيقول المالكية رحمهم الله: صلاة الجماعة سنة مؤكدة في الفرض غير الجمعة، أما الجمعة فشرطها الجماعة، أي أن صلاة الجمعة لا تصح إلا في جماعة، أي: لا يصح مثلاً أن أقوم أنا في بيتي منفرداً فأؤذن للظهر، ثم أقوم فأخطب الخطبة الأولى، ثم الثانية، وأصلي ركعتين؛ لأن الجمعة أصلاً مشتقة من الجماعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي معنا الحديث في أحكام صلاة الجمعة-: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة) فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم لصحة الجمعة حصول الجماعة، أما الصلوات الخمس فصلاة الجماعة فيها عند المالكية سنة مؤكدة.

والدليل على أن صلاة الجماعة سنة حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، وفي حديث أبي هريرة: (بخمسة وعشرين جزءاً).

فعندنا هاتان الروايتان، في أحدهما: سبع وعشرون، وفي الأخرى: خمس وعشرون، وقد تعددت أوجه أهل العلم رحمهم الله في الجمع بين هاتين الروايتين: فرجع بعضهم رواية الخمس؛ لكثرة رواتها.

ورجح آخرون رواية السبع؛ لأن فيها زيادة للعدل الثقة، وزيادة العدل الثقة مقبولة.

وقال بعضهم: ذكر القليل لا ينفي الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد، كما في أصول الفقه؛ لأن المفهومات عند الأصوليين متعددة: فهناك مفهوم اللقب، ومفهوم العدد، ومفهوم الصفة، ومفهوم الشرط، ومفهوم المخالفة، فمفهوم العدد بعض أهل العلم كالحنفية لا يقولون به أصلاً، فمثلاً: قول الله عز وجل: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:٨٠]، فهل لو استغفر لهم مائة مرة سيغفر الله لهم؟

الجواب

لا، والعدد لا مفهوم له، فههنا أيضاً قالوا: العدد لا مفهوم له، وإنما المراد أن الثواب كثير، وفرضوا هذا في جميع الأعداد الواردة في الجزاء على الأعمال، مثل قول الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّة} [البقرة:٢٦١] ثم قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٦١].

ومثله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة) فليست القضية أنها تسعيرة لا تزيد ولا تنقص بل هي بحسب نية الإنسان، وجودة عمله، وإخلاصه لله عز وجل، فالثواب يتفاوت، لأسباب متعددة، فهنا قالوا: مفهوم العدد غير مراد، وذكر القليل لا ينفيه الكثير.

الوجه الثالث: قيل: أخبر بالخمس والعشرين، ثم أخبره الله بزيادة الفضل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن صلاة الرجل في جماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين جزءاً) هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام، ثم أوحى الله إليه أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة.

الوجه الرابع: قالوا: إن الفرق باعتبار قرب المسجد وبعده، أي: أنها خمس وعشرون درجة للمسجد القريب، وسبع وعشرون للمسجد البعيد، ويدل على هذا المعنى أن أحد الصحابة رضوان الله عليهم كما يقول الصحابة عنه: كنا لا نعلم رجلاً أبعد ممشى إلى المسجد منه، وكان لا تفوته أو لا تخطئه صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا له: لو ابتعت حماراً تركبه في الليلة الظلماء، وفي الليلة الشاتية، فقال: والله ما يسرني أن بيتي معلق طنبه بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إني لأرجو أن يكتب الله لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي منه، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (قد جمع الله لك ذلك كله) أي: أن الدرجات مكتوبة لك في الذهاب وفي الرجوع، فقالوا: كلما كان المسجد أبعد؛ كانت الحسنات أكثر.

الوجه الخامس: أن الفرق باعتبار حال المصلي، كأن يكون أعلم، أو أخشع، فنحن نصلي في المسجد بجوار بعضنا، ولكن أجرنا ليس سواء، فبعض الناس يصلي في المسجد ويخرج بالحسنات كاملة، وبعض الناس يصلي ولم يكتب له إلا نصفها، أو ثلثها، أو ربعها، أو خمسها، أو سدسها، أو سبعها، أو ثمنها، أو تسعها، أو عشرها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فليس الناس في الأجر سواء، فالفرق باعتبار حال المصلين، فبعضهم أعلم من بعض بالصلاة وأحكامها وسننها وآدابها، وبعضهم: قلبه أخشع وأسكن وأكثر طمأنينة، وكما قال العلماء: الخشوع نوعان: خشوع الجوارح، وخشوع القلب، فإذا كانت الجوارح خاشعةً والقلب غافلاً فإن هذا الخشوع يسمى خشوع المنافقين، وهو أن يقف الإنسان في صلاته ساكناً لا يتحرك، لكن قلبه في واد آخر، وكان بعض السلف يقول: نعوذ بالله من خشوع النفاق.

الوجه السادس: أن الفرق بإيقاعها في المسجد أو غيره، أي: أن من صلى في المسجد فله سبع وعشرون، ومن صلى مع الزوجة والعيال في البيت فله خمس وعشرون، وكذلك من صلى أمام الدكان وصلى جماعة معه فله خمس وعشرون، وهذا كما يصنع بعض الناس في رمضان في صلاة المغرب.

الوجه السابع: أن الفرق بالمنتظر للصلاة وغير المنتظر، فإنسان صلى المغرب، وجلس ينتظر العشاء؛ فله سبع وعشرون، وإنسان صلى المغرب وانصرف، ثم رجع للعشاء فله خمس وعشرون، أو إنسان جاء إلى صلاة المغرب قبل عشر دقائق، فمكث في المسجد، وآخر جاء مع الإقامة؛ فليسوا في الأجر سواء.

الوجه الثامن: أن الفرق بإدراكها كلها أو بعضها فلو جاء واحد وأدرك تكبيرة الإحرام، وجاء الثاني وأدرك الركوع الأخير فهل هما في الأجر سواء؟ ليسوا سواء.

الوجه التاسع: أن الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم، فمن صلى في زاوية المصلون فيها عشرة، ليس أجره كمن صلى في الجامع والمصلون فيه ألف أو يزيدون.

الوجه العاشر: أن السبع والعشرين درجة مختصة بالفجر والعشاء، وقيل: الفجر والعصر، وأن الخمس والعشرين مختصة بالصلوات الأخرى.

الحادي عشر: أن السبع والعشرين للجهرية، والخمس والعشرين للسرية، ورجح هذا الحافظ ابن حجر في الفتح، والصلوات الجهرية هي: الصبح، والجمعة، والأوليان من المغرب والعشاء، فالفضل فيها بسبع وعشرين، لماذا؟ لاعتبار زيادة العمل فيها؛ لأن الصلاة المعروف أنها اشتملت على أكثر العبادات، فالصلاة فيها ركوع، وسجود، وخشوع، وفيها كذلك تسبيح، وتحميد، وتهليل وتكبير، وفيها كذلك صيام؛ لأن الإنسان لا يأكل ولا يشرب في الصلاة، وفيها كذلك الصدقة، فالإنسان يتصدق بوقته، فيترك مكتبه، ويترك حانوته، ويترك عمله، وفيها كذلك الاتصال بالبيت الحرام عن طريق استقبال الكعبة، والصلاة الجهرية فيها عمل أكثر من الصلاة السرية، فالإنسان إذا كان إماماً أو منفرداً يقرأ، وإذا كان مأموماً فإنه يمسك عن القراءة، ففيها زيادة عمل، ويترتب على ذلك زيادة في الأجر ونقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:٤]، والعلم عند الله تعالى.

فخلاصة قول المالكية رحمهم الله، ومعهم الحنفية: أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة أي: أن من أدى صلاة الجماعة في المسجد فأجره مضاعف، ومن صلى وحده فصلاته صحيحة، لكنه فوت على نفسه الأجر الكثير.