للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم صلاة العيد]

قد تقدم معنا الكلام مراراً: أن جميع مسائل الشرع لا تخلو من خمسة أحكام، وهي: الوجوب، والندب والإباحة، والكراهة، والتحريم، فإذا سئلت عن حكم شرب اللبن فقل: الإباحة، وإذا سئلت عن حكم صلاة الجمعة، فقل: الوجوب، وإذا سئلت عن الركعتين بعد صلاة العشاء فقل: الندب أو الاستحباب أو السنية، وإذا سئلت عن النوم على البطن، فقل: مكروه، وإذا سئلت عن شرب الخمر فقل: حرام.

ونحن نتكلم عن حكم صلاة العيد، أي: عيد الفطر وعيد النحر، ولا نقصد عيد الشجرة، أو عيد الحب، أو عيد الأم، أو عيد الجلاء، أو عيد الفاتح من سبتمبر أو بقية الأعياد.

فحكم صلاة العيد: أنها سنة مؤكدة، وهذا مذهب مالك والشافعي رحمة الله عليهما، واستدلا على ذلك بالقرآن والسنة والإجماع، فدليل الكتاب قول ربنا العزيز الوهاب: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:٢]، فمعنى: صل لربك أي: صلاة العيد، وانحر أي: نسكك بعد الصلاة، فهي مرتبة هكذا.

رتب الرسول صلى الله عليه وسلم كما رتب القرآن، فإنه لما كان غادياً إلى صلاة العيد شم رائحة شواء، فسأل عليه الصلاة والسلام: (ما هذا؟ فقالوا: أبو بردة نحر) أي: أن أحد الصحابة استعجل وذبح، فقال عليه الصلاة والسلام: (مروه فليذبح مكانها أخرى، ثم قال: إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نغدو إلى مصلانا ثم نرجع فننحر نسكنا، فمن فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما شاته شاة لحم ليست من النسك في شيء)، فهذا السنية من السنة.

وإن قال أحد: قوله تعالى: ((فَصَلِّ)) أمر، والأمر يقتضي الوجوب، فنقول: نعم، لكن هذا الأمر صرف عن الوجوب إلى الندب بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على عباده، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة).

ومعنى ذلك: أنه ليس من الصلوات فرض إلا الخمس المكتوبات.

وإنما قلنا بأن صلاة العيد سنة مؤكدة: لمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده عليها.

ولحديث أبي سعيد: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر ويوم الأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم).

وأما من الإجماع: فقد حكى أبو محمد بن حزم الاتفاق على أنها ليست بفرض، إذاً: فهي سنة، مع أن هذا الإجماع ليس مسلماً به؛ لأن بعض العلماء يحكي مسائلاً على أنها إجماع، وليس فيها إجماع، والخلاف فيها مشهور، وأكثر من يفعل ذلك الإمام الحجة أبو عمر بن عبد البر القرطبي المالكي رحمة الله عليه، فدائماً يقول: وأجمعوا على كذا ولا يكون هناك إجماع، وكذلك ابن المنذر رحمه الله في كتاب الإجماع يقول: وأجمعوا وأجمعوا واتفقوا واتفقوا وهو يعني بذلك الجمهور، ولكن يقول: في المسألة من خالف.

وأما حكم صلاة العيد فالخلاف فيه قوي: فقد ذهب الحنابلة إلى: أنها فرض كفاية، وذهب الإمام أبو حنيفة وأبي العباس بن تيمية إلى: أنها فرض على الأعيان، أي: مثل صلاة الجمعة، واستدلوا على ذلك بأمور: أولاً: بما ثبت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر نساءه أن يخرجن لصلاة العيد، حتى أمر الحيض وذوات الخدور أن يخرجن وقال: من لم يكن عندها جلباب فلتعرها أختها).

فلم يستثنِ الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم العيد أحداً، وأمر النساء حتى الحيض منهن أن يخرجن، وأمر الحيض بأن يعتزلن المصلى، أي: يبتعدن قليلاً عن الناس الذين يصلون، حتى يشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأمر ذوات الخدور، وذوات الخدور: هن الفتيات الشابات، يقال لهن: ذوات الخدور، ويقال لهن: المخدرات، أي: المستورات، فهن دائماً يجلسن في الخدر، وخلف الستر، فمثلاً لو طرق الباب طارق الذي يفتح الباب زوجتك أو العجوز وليس ابنتك الشابة، فإنها تكون مخدرة، أما الأشياء القبيحة التي يتناولها الناس فلا يطلق عليها مُخَدَرات وإنما مُخَدِرات-بكسر الدال-؛ لأنها تخدر الناس، أما هؤلاء فإنهن مُخدرات -بفتح الدال-؛ لأنهن يجلسن في الخدور، ومنه الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها) أي: في سترها.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء حتى من كانت حائضاً، وليس عندها جلباب يليق بالصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لتعرها أختها) وتعرها: من الإعارة، أي: تسلفها، فكون النبي صلى الله عليه وسلم ما عفا أحداً فهذا دليل على فرضيتها ووجوبها.

ثانياً: مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين عليها.

ثالثاً: أنها من شعائر الدين الظاهرة، بحيث يقاتل أهل بلد تواطئوا على تركها، فمثلاً: لو قال أهل بلد: نحتفل بالعيد ونلبس الجديد، ولكن لا نصلي صلاة العيد، فهؤلاء يحاسبون، مثلما لو تمالئوا على ترك الأذان، وقالوا: كان هذا الأذان عندما لم يكن للناس ساعات، أما الآن فعندهم ساعات، فما عادوا يحتاجون إليه، وصلوا بغير أذان، فإنهم يقاتلون؛ لأن هذه من شعائر الدين الظاهرة، ويميز بين دار الإسلام ودار الكفر بهذه الشعائر.

فمثلاً: لو نزلت لندن أو فرانكفورت فلن تسمع أذاناً، لكن لو نزلت الخرطوم أو القاهرة أو المدينة فستسمع الأذان في كل مكان، ولو أنك حضرت العيد في إحدى ديار الكفر فلن تشعر أن اليوم يوم عيد، لكن لو نزلت في بلد من بلاد الإسلام -رغم بعد الناس عن الإسلام الآن- إلا أنك تشعر بأن اليوم عيد من كثرة المكبرين والمهللين، وظهور البِشْر والسرور على وجوه الناس، وما يلبسونه من ثياب حسنة تشعر بأن عيداً قد حل على الناس.

وكلام الإمام ابن حزم رحمة الله عليه في أن الإجماع منعقد على أن صلاة العيد ليست فرضاً، غير مسلم له به، فالخلاف مشهور، وقد خالف ما ادعاه من الإجماع على عدم الفرضية أئمة كبار، كالإمام أبي حنيفة في قوله بأنها فرض عين، وكالإمام أحمد في قوله بأنها فرض كفاية.

أما القائلون: بأنها سنة مؤكدة فهم المالكية والشافعية رحمة الله على الجميع.