للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرد على شبهة من يجوز إدخال القبر في المسجد محتجاً بوجود قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده

ومن الناس من يعترض ويقول: لو كان ذلك ممنوعاً فلم جعل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف؟

و

الجواب

لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما توفاه الله ضحى يوم الإثنين لم يدفن إلا ليلة الأربعاء، يومين وليلة في مكانه لم يدفن؛ لأن الصحابة شغلوا بعدة أمور: أولاً: بالخلافة، ومن يكون الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن نصب الخليفة واجب.

ثانياً: أنهم شغلوا بكيفية غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لما له من أحكام خاصة، فهل يجرد من ثيابه كما تجرد الأموات، أم يغسل من فوق الثياب؟ ثالثاً: شغلوا في المكان المناسب الذي يدفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال: ندفنه في البقيع، ومن قائل: ندفنه في مكة، ومن قائل: نذهب به إلى الشام، حتى جاء أبو بكر بالقول الفصل فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما قبض الله نبياً إلا ودفن حيث قبض).

وبعد ذلك، اختلفوا هل يلحدون له أم يشقون؟ وكان أبو طلحة الأنصاري يلحد، وكان أبو عبيدة بن الجراح يشق، والشق الذي نفعله الآن في وسط القبر يسمى: لحداً، وليس كذلك، وإنما هو شق، وأما اللحد فهو الذي يكون في جانب القبر، بحيث يدخل الميت في اللحد كما يدخل الدرج في المكتب، ثم ينصب اللبن نصباً.

فلما اختلف الصحابة هل يلحدون أو يشقون؟ قالوا: نرسل إلى أبي طلحة الأنصاري وأبي عبيدة بن الجراح فأيهما جاء أولاً فقد اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فجاء الذي يلحد، فصنعوا للنبي صلى الله عليه وسلم لحداً ووضعوه فيه، ووضعوا تحت رأسه الشريفة قطيفة، ونصبوا عليه اللبن نصباً، ثم أهالوا عليه التراب، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله كان في حجرة عائشة، ولا يقول عاقل بأن حجرة عائشة كانت في المسجد، وإنما كانت بجوار المسجد من الناحية الشرقية، وبعد ذلك قام سيدنا عمر رضي الله عنه بتوسيع المسجد من الناحية الغربية، ثم جاء عثمان رضي الله عنه فوسعه من الناحية الشمالية، ثم استمر الحال هكذا إلى أن جاء عهد الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص، وكان ذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من ثمانين سنة، جاء فأمر بأن يوسع المسجد من الناحية الشرقية، وكانت الحجرات ملاصقة للمسجد من الناحية الشرقية، وإذا وسع المسجد لابد أن يدخل فيه الحجرات، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمير المدينة، فجمع العلماء واستشارهم في هذا الأمر؛ لأن ذلك سيفضي إلى دخول القبر في المسجد، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فبعث عمر بهذا الكلام إلى الوليد، لكن الوليد أرسل إليه بأن ينفذ ما أمر به، فنفذ عمر بن عبد العزيز ما أمر به الوليد بن عبد الملك فخرج العلماء رحمة الله عليهم في ذلك اليوم من المدينة؛ مخافة أن يسخط الله عليهم بهذه الفعلة، فأدخل عمر الحجرات في المسجد، ولكنه احتياطاً -جعل حول القبر جداراً- حرف القبر عن القبلة بحيث لا يتأتى أن يستقبل الإنسان القبلة والقبر، فإما أن يستقبل القبلة أو القبر، ولا يستطيع الجمع بينهما، ولكن يبقى الذي فعله الوليد بن عبد الملك خطأ، غفر الله له، وهذا لا يقاس عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أحكامه خاصة، وقد دعا ربه فقال: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد بعدي، ودعاؤه مستجاب، ولكن غيره صلى الله عليه وسلم لا يستطيع الجزم بأن قبره لن يكون وثناً يعبد بعده.

فإذا مات ميت فلا يجوز دفنه في المسجد، أو في البيت كما يصنع في بعض البلاد، وإنما الواجب رده إلى مقابر المسلمين.

ومن الناس من يقول: إن أبا بكر وعمر دفنا بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال لهما: (أنتما مني بمنزلة السمع والبصر)، وسمع الإنسان وبصره لا يفارقانه.

فالصلاة في المساجد التي فيها قبور أقل أحوالها الكراهة، فإذا كان بجوار المسلم مسجد فيه قبر وآخر ليس فيه قبر، فلا يصل في المسجد الذي ضم قبراً، ما دام وأنه في سور المسجد، وسواء كان في أمام المصلين، أو خلفهم، أو عن يمينهم، أو عن شمالهم، لكن لا شك بأن القبر إذا كان في اتجاه القبلة فالأمر أعظم، كما في مسجد في أم درمان فالقبر ملتصق بالمحراب.

وفي مصر القبر المزعوم للحسين، ف الحسين -كما يزعمون- عنده أربعة قبور: قبر في عسقلان في فلسطين، وقبر في كربلاء في العراق، وقبر في مصر، وقبر في البقيع، وأصحها الذي في البقيع؛ لأنه رضي الله عنه باتفاق المؤرخين فقد جسده في كربلاء، وما بقي إلا الرأس، فغسل الرأس وحنط وطيب ودفع إلى زينب أخته، وأرسل معهم يزيد من يحرسهم هم وآل البيت إلى أن وصلوا إلى المدينة، فدفن رأس الحسين بجوار أمه فاطمة وأخيه الحسن رضوان الله عليهم أجمعين.

وفي مصر في هذا القبر المسمى بقبر الحسين تجد الأزاهرة معممين مطربشين، ومع الناس طائفين، وما حالت دون ذلك العمائم البيض، ولا الطرابيش الحمر، فلا يصح الاحتجاج بأن العلماء في الشام أو في مصر أو في السودان يفعلون ذلك، فالعالم يزل، وزلته ليست بحجة، قال سيدنا عمر ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق، وأئمة مضلون.

هؤلاء الثلاثة يهدمون الدين، ولكن الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ غريباً وسيعود غريباً)، فلذلك الأحكام الآن غريبة، وأكثر الناس إذا سمع هذا الكلام يقول لك: هل هؤلاء المسلمون كلهم على خطأ؟ نعم على خطأ، والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)، (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)، فهذه كلها نصوص واضحة، ولا تحتمل تأويلاً.

وبعض الناس يحتجون بأن الله لو أراد ألا يتم ذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان،

و

الجواب

أن هذا هو الصحيح، وكذلك لو أراد الله ألا يجرح رسوله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ما جرح، ولو أراد الله ألا يموت رسوله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن هذه حجة المفلسين، بأن يحتجوا على الشرع بالقدر، وانتبهوا كما قال المشركون الأولون عندما قال لهم: هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:٢٠]، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:١٤٨]، وعندما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الميتة حرام، قالوا: الميتة قتلها الله، وما قتله الله أفضل مما قتلناه بأيدينا، وهذه من الحيل الشيطانية.

فمسألة الاحتجاج بأن الله لو ما أراد كذا ما كان كذا من حجج المفلسين، ففي المدينة المنورة حول المسجد النبوي كثير من الأمور الخاطئة، فقد قد تجد من يدخن، أو يعصي الله بكلام لا يليق، فهل نقول: إن الله لو لم يرد ذلك لما كان؟ وقد تجد من يقف على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنداً إلى جدار القبر وقد رفع إحدى رجليه على جدار القبر، فهل نقول: إن الله سبحانه وتعالى لا يغضب لنبيه صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا، ولكن لله عز وجل حكمة، وليس من لوازم الغضب تعجيل العقوبة.