للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة)]

النداء الثاني بوصف الإيمان في كتاب الله عز وجل في الآية الثالثة والخمسين بعد المائة من سورة البقرة: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٣].

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها جاءت في ثنايا الحديث عن تحويل القبلة، وقد ذكر بعض المفسرين في نزولها سبباً الله أعلم به، قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مكث في المدينة يستقبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً أنزل الله عليه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٤٤] فتهكم المشركون من أهل مكة وقالوا: مثل ما رجع محمد إلى قبلتنا سيرجع إلى ديننا.

وهذا الكلام في واقع الأمر كذب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يوماً من الأيام على دين المشركين، وإنما فطره الله عز وجل على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً، فما تمسح بصنم، ولا طاف حول صنم، ولا ذبح عند نصب، ولا أكل مما كان يذبح على الأنصاب.

وقد أمرنا الله عز وجل في الآية التي قبلها بالشكر فقال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:١٥٢]، وفي هذه الآية أمرنا بالصبر، قال أهل العلم: والإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر؛ لأن الإنسان لا يخلو من حالتين، إما أن يكون في نعمة فيشكر الله عليها، وإما أن يكون في بلاء فيصبر، ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباًِ لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).

فالله عز وجل يخاطبنا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا) والاستعانة: طلب المعونة، ((اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ))، الصبر حبس النفس على ما تكره، فالنفس قد تكره أحياناً نوعاً من أنواع العبادة كما قال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦]، فتحبسها على هذا المكروه طالما أنه يرضي رب العالمين جل جلاله، والنفس أحياناً قد تشتهي المعصية وتكره تركها فتحملها على ما تكره.

((اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ))، فالله عز وجل ذكر الصبر قبل الصلاة، قال الألوسي رحمه الله في روح المعاني: لأن الصلاة نوع من أنواع الصبر، والصلاة تحتاج إلى صبر، فكون الإنسان يقوم لصلاة الفجر في الشتاء أو في الصيف مع قصر الليل، فهذا كله يحتاج إلى صبر، ولذلك قدم الله عز وجل الصبر فكأنه خصوص بعد عموم.

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)).

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وقال: أرحنا بها يا بلال).

وكذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنه فقد نعي إليه أخوه قثم بن العباس، وقيل: بل نعيت له بنت من بناته، فتنحى رضي الله عنه وصلى لله ركعتين ثم قال: مصيبة جبرها الله، وعورة سترها الله، واستعينوا بالصبر والصلاة.