للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)]

النداء الرابع في سورة البقرة في الآية الثامنة والسبعين بعد المائة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:١٧٨].

هذه الآية نزلت لرفع ظلم كان أهل الجاهلية واقعين فيه، يستوي في ذلك الكفار المشركون عبدة الأصنام وأهل الكتاب الذين كان من المفترض في حقهم أن يكون العدل شريعة سائدة بينهم.

قيل: غزت بنو النضير بني قريظة، فقهروهم وغلبوهم، فكان بعد ذلك إذا قتل القرظي نضرياً قتل به، وإذا قتل النضري قرظياً لا يقتل به، وإنما يفادى بمائة وسق، أي: بني النضير أعلى من بني قريظة، وكذلك أهل الجاهلية، فقد اقتتل حيان من أحياء العرب فكان فيهم ثارات وجروح ودماء ثم بعد ذلك أسلموا دون أن تنتهي بينهم تلك الثارات، وكان أحد الحيين أعلى من الآخر وأجل، فحلفوا بالله بعدما أسلموا أن يقتلوا بالمرأة منهم الرجل من أولئك، وبالعبد من منهم حراً من أولئك، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، يبطل فيها شريعة الجاهلية، ويثبت القصاص، وأنه لا يقتل إلا القاتل، وأنه لا يجوز أن يقتل غير القاتل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أعتا الناس على الله ثلاثة -ثلاثة أصناف-: رجل قتل في الحرم، ورجل قتل غير القاتل، ورجل أخذ بذحل الجاهلية)، بذحل الجاهلية أي: بعداوة الجاهلية وحقدها.

وقد أنزل الله عز وجل هذه الآية يشرع فيها القصاص، وكلمة القصاص: معناها المماثلة، وهي مأخوذة في الأصل من قص الأثر، قال الله عز وجل: {فارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:٦٤]، وقال: على لسان أم موسى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:١١] أي: تتبعي أثره، ومنه سميت القصة قصة؛ لأن الحكاية تساوي المحكي، ومنه سمي المقص مقصاً لتعادل جنبيه، وأصل القصاص أن يفعل بالجاني مثلما فعل، فلو أنه قتل بالسيف فإنه يقتل بالسيف، ولو أنه قتل بمثقل فإنه يقتل بمثقل، ولو أنه قتل بمحدد فإنه يقتل بمحدد، ولو قتل بالسم فإنه يقتل بالسم، فيفعل به مثلما فعل تماماً، وفي الحديث الصحيح: (أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين من أجل أوضاح -يعني: حلي من الفضة- فقتل تلك الجارية، فأتي بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها: أقتلك فلان؟ فرفعت رأسها- يعني: لا- أقتلك فلان؟ فخفضت رأسها فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف وأمر برض رأسه بين حجرين).

وهذا التشريع داخل تحت قول الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:٩].