للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحوال تشريع الصيام]

وهذه الكتابة مرت بأطوار، كما هو الحال في أغلب التشريعات، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال) أي: تشريع الصلاة مر بثلاثة أطوار وتشريع الصيام مر بثلاثة أطوار.

أما الصلاة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بعد أن هاجر إلى المدينة سبعة عشر شهراً يستقبل بيت المقدس حتى أنزل الله عليه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٤٤] فوجهه إلى الكعبة.

ثم إنه كان إذا حان وقت الصلاة يؤذن الصحابة بعضهم بعضاً، أي: كان يخبر بعضهم بعضاً، الصلاة الصلاة الصلاة، (حتى نقسوا أو كادوا ينقسون) أي: حتى كادوا يستعملون الناقوس، ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له: عبد الله بن زيد بن عبد ربه (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رأيت فيما يرى النائم ولو شئت لقلت: ما كنت نائماً، بين أنا بين النائم واليقظان إذ أتاني رجل عليه ثوبان أخضران فقال لي: يا عبد الله قل: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله مثنى، حتى فرغ من الأذان، ثم مكث ساعة فعاد فقال مثل ما قال أولاً غير أنه زاد قد قامت الصلاة مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علمها بلالاً فإنه أندى منك صوتاً)، وكان الرجل يأتي إلى الصلاة وقد سبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعضها، فكان يشير إلى من بجواره: كم صليتم؟ فيخبره فيأتي بما فاته ثم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أن: الصحابي كان إذا جاء وقد فاتته ركعة فإنه يأتي بها أولاً ثم يدخل في الركعة الثانية مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن معاذاً جاء يوماً وقد سبق ببعض الصلاة فقال: (والله لا أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال إلا كنت عليه فيها، فدخل على الحال التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وبعدما سلم قام معاذ فأتم، فقال عليه الصلاة والسلام: (قد سن لكم معاذ سنة فاتبعوه) ومن ذلك اليوم وإلى يومنا هذا إذا جاء الإنسان مسبوقاً فإنه يدخل مع الإمام وبعد سلام الإمام يقوم فيتم الصلاة.

وكذلك الصيام أحيل ثلاثة أحوال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما هاجر إلى المدينة كان يصوم يوم عاشورا وثلاثة أيام من كل شهر، حتى أنزل الله عليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣]، إلى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:١٨٤]، فكان من شاء صام ومن شاء أطعم؛ لأن الصيام على التخيير، فالذي يريد يصوم، والذي لا يريد لا يصوم، وله الحق في ذلك، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، حتى أنزل الله عز وجل قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥]، فصار الصوم واجباً على الغني والفقير، فهذان حالان.

ثم إن الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل ويشرب ويأتي النساء ما لم ينم، أي: إذا غربت الشمس فله الحق في أن يأكل ويشرب ويأتي النساء، فإذا نام منع من هذا كله إلى غروب الشمس من اليوم الذي يليه.

ثم إن رجلاً من الأنصار -والرواية في صحيح البخاري - يقال له: قيس بن صرمة كان يعمل صائماً حتى أمسى، فجاء إلى أهله، فصلى ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح.

وفي بعض الروايات (أنه رضي الله عنه جاء وبينما زوجه تهيئ له طعاماً إذ غلبته عيناه فنام، فجاءت زوجته فقالت: يا هنتاه أنمت؟ فأصبح رضي الله عنه صائماً، فرآه رسول صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً فقال: مالي أراك قد جهدت جهداً شديداً؟ قال: يا رسول الله! إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت حين أصبحت صائما) أي: أن هذا الرجل صام يومين متتابعين، فجاء الفرج من الله عز وجل بقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:١٨٧]، فلو أن أحداً منا الآن رجع بعد صلاة التراويح فنام، فإنه يمكنه أن يقوم قبل الفجر فيأكل ويشرب ولا حرج عليه في ذلك، ((ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ))، والحمد لله رب العالمين.