للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير آية المداينة]

قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:٢٨٢] أي: إذا تعاملتم بالدين، سواء كان هذا الدين قرضاً أو بيعاً أو سلماً، ((إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) أي: إلى وقت معروف، وإلى شهر معلوم، أو يوم محدود فاكتبوه.

وقوله: ((وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)) أي: بالحق، فلا يكتب الدائن ولا المدين، وإنما يكتب بينهما طرف ثالث.

وقوله تعالى: ((وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ)) أي: يا أيها الكاتب! يا من علمك الله الكتابة! إذا دعيت لتكتب بين الناس كما علمك الله فعليك أن تخدم الناس، كما قال سبحانه: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧].

وقوله تعالى: ((وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ)) تأكيد.

((وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ)) الذي عليه الحق هو المديون، وهو الذي يملي؛ لأنه بعيد من أن يفرض أو يزيد على نفسه ما ليس واجباً عليها، وليملل بمعنى: وليملي، ويملي ويملل: لغتان.

وقوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} أي: لا ينقص من هذا الدين الذي وجب عليه شيئاً.

وقوله تعالى: ((فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ)) أي المدين ((سَفِيهًا) والسفه هو: عدم إحسان النظر في المال، إما لصغر أو جنون، فإن كان هذا المدين سفيهاً، ((أَوْ ضَعِيفًا))، الضعيف كالصغير وشبهه، {أو لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ} [البقرة:٢٨٢] أي: لا يستطيع أن يملي؛ لأن فيه بكماً أو صمماً أو عمى، أو غير ذلك من الأعذار، فإذا كان المدين سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو، فلا بد أن يولي عليه ولياً، قال تعالى: ((فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)) أي: من له ولاية على السفيه والصغير، كالأب والوصي وعرفاء القبيلة.

((وَاسْتَشْهِدُوا)) أي: اطلبوا الشهادة، ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ))، هذا نص في أن شهادة الصبي لا تقبل، وأن شهادة الكافر لا تقبل؛ لأن الله عز وجل قال: (شهيدين من رجالكم) أي: المسلمين.

قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: أما الكافر فلأن اختلاف الدين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب، أي: إذا كان الدين مختلفاً لن يكون بيننا خلطة ومعاشرة كالتي تكون بين المسلم والمسلم، أو بين الكافر والكافر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:٧٣]، وكذلك المسلمون بعضهم أولياء بعض، ولما كان اختلاف الدين موجباً للتباعد وعدم المعاشرة والاختلاط بصورة كافية، ترتب على ذلك أنه لا يمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، ولأنه قد عرف من حال غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفيه، هذا في الغالب؛ ولأجل هذا اتفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر، يعني: لو أن مسلمين اختلفا لا يصلح أن يدخل بينهما شاهد كتابي، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، ومن باب أولى من ليس كتابياً، فمن كان مجوسياً أو وثنياً فهو أبعد من أن يشهد على المسلمين.

قال الله عز وجل: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ)) أي: إن لم يوجد رجلان، قال الله عز وجل: ((فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)) أي: فالشاهد رجل وامرأتان، أو فليشهد رجل وامرأتان، أو فليكن رجل وامرأتان.

وهنا اتهم كثير من الناس الإسلام أنه يحقر المرأة؛ لأنه يجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل، والحق أن الإسلام لم يحقر المرأة فالله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:١٣]، وقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:١٩٥]، ولكن القضية أن المرأة أيها الإخوة أضعف من الرجل بأصل الجبلة وبحسب الغالب، فالغالب عليها النسيان، وليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، ولذلك غالباً ما تكون ذاكرتها في هذه الأمور ضعيفة، بخلاف الأمور المنزلية التي هي شغلها الشاغل، فإن ذاكرتها في تلك الأمور تكون قوية، فإن قيل: يوجد من النساء من تدير مكتب عقارات، ومنهن من تكون سمسارة، وغير ذلك من الأمور التي قد تتولاها النساء.

ف

الجواب

أن هذا على سبيل الشذوذ، والشاذ لا حكم له، والغالب على النساء ليس لهن اهتمام بالأمور المالية، ولذلك قال الله عز وجل: ((فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)).

أما الشيء الخاص بالنساء والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات، فالأمور التي تتعلق بالعيوب النسوية، أو التي تتعلق بالولادة، فإذا أردنا أن نحكم على امرأة بأنها بكر أو ليست بكراً، فهذا القضية تقبل فيها شهادة النساء، كما تقبل شهادتهن في الاستهلال، فإذا ولد مولود وأردنا أن نحكم عليه هل استهل أو لم يستهل، فالغالب أنه لم يحضر ذلك الموضع إلا النساء، ولذلك تقبل شهادتهن.

قال الله عز وجل: ((فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) وعلل ذلك فقال: ((أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) وقرأ حمزة: ((إنْ تَضِلَّ)) على أنها شرطية، {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ إنْ تَضِلَّ} أي: لو ضلت ونسيت إحداهما فالأخرى تذكرها، من أجل أن تتعاضد شهادتهما في إحقاق الحق.

قال الله عز وجل: ((وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)) أي: لو دعوا إلى شهادة فليتقوا الله ولا يكتموها؛ لأن هذه الشهادة يتم بها إثبات الحقوق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهداء: من يؤد الشهادة قبل أن يسألها) أي: أنه قبل أن يطلب منه الشهادة يؤديها حسبة لوجه الله عز وجل.

قال سبحانه: ((وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ)) معنى (لا تسأموا): لا تملوا، والسأم: الملل، ومنه قول القائل: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا له يسأم قوله: ((وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) أي: أن تكتبوا الدين، وهذا الحكم الذي مضى من أجل ثلاث علل هي: ((ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) أي: هذا الذي شرعته لكم ليس من أجل إعناتكم وإرهاقكم، ولكن لأن ذلك ((أَقْسَطُ)) أي: أحفظ للحق، ((وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ)) أي: أعون على إقامتها، ((وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا)) أي: أقرب إلى نفي الريبة والشك، بدلاً من أن يدخل أنا الدائن وأنت المدين في جدال، يقول الدائن: أعطيتك عشرة ملايين، ويقول المدين: لا بل كانت تسعة أو ثمانية، وبعد ذلك لا بد من أيمان بالله أو بالطلاق وما أشبه ذلك، فالكتابة تحفظ لكل ذي حق حقه.

قال الله عز وجل: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)) أي: إلا إذا كان بيعاً فيه أخذ وعطاء فلا داعي للكتابة؛ لأن هذا فيه نوع من التعكير والتضييق، فإذا ذهب الإنسان إلى التاجر؛ ليشتري سلعة وكان لا بد من كتابة البيع والشراء ففيه تضييق على حياة الناس، فإذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها.

قال الله عز وجل: ((وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ))، هذا الأمر أمر إرشاد، لا أمر إيجاب، ((وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ)) أي: لا يحل للدائن والمدين أن يوقعا الضرر مع الكاتب فتوقعوه في الحرج والمشقة.

وكذلك الشهيد فلا يجوز للدائن أو المدين ترغيبه أو ترهيبه؛ من أجل أن يلوي لسانه بالشهادة، فيؤدي غير ما عرف، ولا يجوز الإضرار به كذلك بأن ترفع القضايا إلى الحكام، وفي كل يوم يستدعى هذا الشاهد الذي ليس إلا متطوعاً.

قال الله عز وجل: ((وَإِنْ تَفْعَلُوا)) أي: هذه المضارة ((فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)) أي: أن الذي يتعمد الإضرار بالمسلم فهو فاسق.

قال الله عز وجل: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) كلمة: (الله) هنا تكررت ثلاث مرات، ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))، وفي هذه الآية إظهار في مقام الإضمار، قال البيضاوي رحمه الله: كرر لفظة الله في الجمل الثلاث؛ لاستقلالها، فالأولى حث على التقوى، والثانية وعد بالنعمة، والثالثة تعظيم لشأنه جل جلاله.

والعلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله قال: الإظهار في مقام الإضمار أدخل في التعظيم، ومنه قول القائل: اللؤم أكرم من وبر بوالده واللؤم أكرم من وبر وما ولدا واللؤم داء لوبر يقتلون به لا يقتلون بداء غيره أبداً ومنه قول الشاعر وكان متضايقاً من الشيب لكنه يظهر خلاف ما يبطن يقول: لما رأيت الشيب لاح بياضه بمفرق رأسي قلت للشيب مرحباً فكرر الشيب مرتين.

وقد ظهر بين المسلمين من الدجالين الذين لم يقرءوا القرآن، ولم يشتغلوا بالعلم من يشرع للناس ويقول: إنه قد جاءه فيض من الله، وأن الله يقول: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) وقال بعضهم: أنتم تحدثون عن فلان وفلان من الأموات، ونحن نحدث عن الحي الذي لا يموت، وقال آخر: حدثني قلبي عن ربي، فلا يحتاج إلى علماء ولا إلى شيوخ.

قال محمد عبده كما في تفسير المنار: اشتهر على ألسنة المدعين في معنى هاتين الجملتين: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)) أن التقوى تكون سبباً للعلم، وبنوا على ذلك أن سلوك طريقتهم وما يأتونه فيها من الرياضة وتلاوة الأوراد والأحزاب تنشر لهم الع