للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معاني مفردات هذه الآية]

ينادينا ربنا جل جلاله -معشر المؤمنين- ويقول لنا: ((لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ)) أي: حال كونكم مسلوبي العقول بفعل السكر، وقول الله عز وجل: ((لا تَقْرَبُوا)) مبالغة في النهي، ونجد دائماً أن الله جل جلاله إذا نهى عن كبيرة من الكبائر فإنه لا ينهى عن فعلها فقط، وإنما ينهى عن قربانها، يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:١٥١]، وقال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:١٥٢]، وقال {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:٣٢]، وقال هنا أيضاً ((لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ)) أي: حال كونكم سكارى.

قوله عز وجل: ((وَأَنْتُمْ سُكَارَى)) السكارى: جمع سكران، وهو مشتق من السكر، وهو السد، يقال: هذا باب مسكر إذا كان مغلقاً مشدوداً، وكأن السكران قد سُدَّت منافذ عقله فلا يعي شيئاً، والسكران هو الذي تناول شيئاً بفعل نفسه فأذهب معه عقله مع نشوة وطرب.

قوله: ((حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)) أي: حتى تعود إليكم عقولكم التي تميزون بها أقوالكم وأفعالكم، ويظهر من هذه الآية أن السكران لا يعلم ما يقول.

يقول ابن جزي المالكي رحمه الله: ومن هذه الآية انتزع بعض العلماء: أن طلاق السكران لا يقع؛ لأنه لا يعلم ما يقول، وأيضاً قال بعض أهل العلم: ردة السكران لا تقع.

أي: لو أن السكران حال ذهاب عقله تلفظ بكلمات فيها ردة فإنه لا يحكم عليه بأنه مرتد؛ لأنه لا يعي ما يقول.

يقول الإمام النسفي رحمه الله تعالى: قراءة سورة الكافرون بطرح اللامات كفر.

يعني: لو أن رجلاً قرأ سورة الكافرون وطرح اللامات، أي: أنه بدلاً من أن يقول: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:٢] قال: أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما عبدتم، وأنتم عابدون ما أعبد، فطرح اللامات عمداً فإنه يكفر.

قال: ومع ذلك لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الصحابي الذي قرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:١] أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، ولا حكم بالتفريق بينه وبين امرأته، ولا بتجديد الإيمان.

وكما نهانا ربنا عن الصلاة حال السكر فقد نهانا أيضاً عن الصلاة في حال الجنابة، فقال: ((وَلا جُنُبًا)) والجنابة إما أن تكون بجماع أو بإنزال، يقال: رجل جنب، وامرأة جنب، ورجلان جنب، وامرأتان جنب، ورجال جنب، ونساء جنب، فهذه الكلمة لا تثنى ولا تؤنث، ((وَلا جُنُبًا)) أي: ولا تقربوا الصلاة وأنتم على جنابة.

وقال بعض أهل التفسير: بل المقصود مواضع الصلاة وهي المساجد، أي: لا تقربوا المساجد وأنتم جنب.

قوله: ((وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ)) العبور هو الجواز والمرور، وإذا لم يكن ثمة طريق إلا من المسجد فللجنب أن يمر فيه.

قوله: ((وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ)) أي: يا أيها الناس! من كان منكم مريضاً، والمرض: هو خروج الجسم عن حال الاعتدال والصحة إلى حال الاعتلال والعلة، والسفر: هو الخروج من الدار أو من محلة القوم إلى مكان تقصده، ((أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ)) الغائط: هو المنخفض من الأرض، وكل مكان منخفض تسميه العرب غائطاً، وهو كناية عن الحدث الخارج من السبيلين، فالعرب كانت تأنف أن تتخذ الكُنُف في بيوتها، فإذا أراد أحدهم أن يحدث فإنه يرتاد مكاناً منخفضاً من أجل أن يستتر عن أعين الناس، والغائط حقيقة عرفية مستعملة في الحدث.

قوله: ((أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ)) الملامسة هنا هي الجماع، وقال بعضهم: بل المراد الجماع وما دونه من التقبيل ونحوه، وقال بعضهم: بل المراد مطلق اللمس، أي: مباشرة الجسم بالجسم، وفي هذه الأحوال كلها: لو كنتم جنباً، أو كنتم مرضى، أو كنتم على سفر، أو حصل منكم جماع للنساء ((فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) والتيمم: هو القصد، والصعيد: هو ما ظهر على وجه الأرض من جنسها، والطيب: هو الطاهر، ((فَتَيَمَّمُوا)) أي: اقصدوا إلى ما ظهر على سطح الأرض من تراب، أو رمل، أو حصباء، أو غير ذلك، ((فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)).

ونلاحظ في الوضوء أن الإنسان يغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه فرضاً، وفي الغسل فإنه يعمم بدنه بالماء، وأما بالنسبة للتيمم فقد اقتصر على مسح الوجه واليدين، والمراد باليدين: الكفان، والعلة في ذلك كما يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه: أن التيمم لا يقصد به التطهير الحسي، ولا يقصد به تجديد النشاط، ولكنه مجرد استكمال الحالة للصلاة، قال الله عز وجل: ((فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا)) أي: بالترخيص والتيسير، ((غَفُورًا)) أي: عن الخطأ والتقصير.