للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات)]

النداء الثالث والعشرون في الآية الحادية والسبعين من سورة النساء: قول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:٧١].

هذه الآية واحدة من الآيات التي تضع أحكاماً وآداباً للجهاد في سبيل الله، وكثير من آيات القرآن قد تناولت هذا الموضوع بالتفصيل، ولا غرابة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عد الجهاد ذروة سنام الإسلام.

يقول الله عز وجل لنا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) الحذر والحذر: بمعنى واحد كالإثر والأثر، وأخْذ الحذر معناه: الاحتياط والاحتراز من المخوف، يقال: حذر من كذا، إذا احترز منه، وابتعد عنه، واحتاط له.

قوله تعالى: ((خُذُوا حِذْرَكُمْ)) قال أهل التفسير: هذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب التي بها يستعان على قتالهم، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لـ خالد بن الوليد لما بعثه إلى الشام: حاربهم بمثل ما يحاربونك به السيف بالسيف، والرمح بالرمح، قال أهل التفسير: ويشمل ذلك استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم ومخارجهم ومكرهم، ويكون أخذ الحذر كذلك ببذل المال للجهاد في سبيل الله كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:١٠ - ١١]، ويشمل ذلك أيضاً تجهيز الغازي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا).

ويدخل في ذلك معرفة حال العدو، ومعرفة أرضه، وسلاحه، وبلاده، وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء، وجر الأثقال، وما يعين على ذلك من صناعة الطائرات، والقنابل، والدبابات، والبوارج المدرعة، والمدافع المضادة للطائرات إلى غير ذلك؛ حتى لا يؤخذ المسلمون على غرة فتستباح بيضتهم، وتحتل أرضهم، ويعارَض ويحارَب دينهم.

((خُذُوا حِذْرَكُمْ)) لا من العدو الخارجي فحسب، بل حتى من العدو الداخلي كذلك، وهم المنافقون الذين يثبطون المسلمين عن القتال كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:٧٢]، وفي هذه الأيام التي ترفع فيها رايات الجهاد في فلسطين، وفي العراق، وفي أفغانستان، وفي غيرها من بلاد الله نجد كتابات تنشر هنا وهناك بأنه لا فائدة من المقاومة، وأنه لا بد للمسلمين أن يبحثوا عن أرضية مشتركة بينهم وبين عدوهم، ويقبلوا بحكم الواقع، هكذا يروج كثير من الناس لمثل هذه الأفكار الكاذبة الخاطئة، فهؤلاء جميعاً نحن مأمورون بأخذ الحذر منهم ((خُذُوا حِذْرَكُمْ)).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملاً بهذه الآية، فكان عليه الصلاة والسلام على علم بأرض عدوه، وكان له العيون والجواسيس الذين يأتونه بالأخبار، ففي غزوة بدر قبل أن يذهب صلى الله عليه وسلم بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضوان الله عليهما إلى الحوراء على ساحل البحر؛ من أجل أن يترصدوا عير أبي سفيان، وكان أحياناً يبعث بـ حذيفة بن اليمان وأحياناً بـ عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وغيرهم رضوان الله عليهم، ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن قريشاً قد نقضت العهد الذي أبرم في الحديبية استعد لفتح مكة، ولم يفلح أبو سفيان في تأجيل المعركة، وكان يظن أن المسلمين ما علموا بنقضه للعهد.

قوله: ((خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا))، وهو من نفر ينفُر بالضم، ومن نفر ينفِر بالكسر، وهو الخروج للجهاد في سبيل الله كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة:٣٨ - ٣٩]، ((فَانفِرُوا ثُبَاتٍ) الثبات: جمع ثبة، أي: جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، ((أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)) أي: انفروا كلكم إلى الجهاد، وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرين معاً، فتارة كان يبعث بالقطعة من الجيش، أو بالنفر المعينين لمهمة من المهام كما فعل في سرية عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه، فقد بعث به إلى وادي نخلة بين مكة والطائف، وبعث سرية بقيادة محمد بن مسلمة لقتل عدو الله كعب بن الأشرف اليهودي، وبعث عبد الله بن أنيس وهو رجل واحد لقتل خالد بن سفيان بن نبيح الكلبي الهذلي الذي كان يجمع الجيوش في وادي عرنة من أجل أن يغزو المدينة المنورة، وأحياناً يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين جميعاً، كما حدث في غزوة تبوك، فطبق الأمرين معاً، ((فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)).