للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بركة سماع المحاضرة في المسجد]

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه سلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد الله عز وجل وأشكره ثم أشكر الإخوة القائمين على تنظيم هذه اللقاءات المباركة في جهاز الإرشاد والتوجيه، وأسأل الله سبحانه -لنا ولهم ولكم جميعاً- بمنه وكرمه أن يستعملنا في طاعته، وأن يتوفانا على أحسن حالٍ ترضيه، وأن يضاعف لنا الحسنات، ويكفر السيئات، ويرفع الدرجات، ويغفر الزلات، إنه سميعٌ مجيب الدعوات.

أحبتي في الله: قبل أن نفيض في موضوعنا هذا أود أن أذكر بمسألتين مهمتين، الأولى هي مسألة الفضل العظيم الذي يتحقق بحضور حلق الذكر في رياض الجنة، الفضل العظيم الذي يتحقق بالعناية والإنصات والمشي والاستماع إلى مثل هذه اللقاءات؛ إذ رب قائلٍ يقول: ما ضر لو اشتريت المحاضرة، ما ضر لو أنني قرأت كتاباً حول هذا الموضوع ولا داعي لحضورها، وربما يكون هذا الأمر صحيحاً لمن كان مشغولاً شغلاً لا بد له منه، أما من لا شغل يمنعه أو يحجبه عن مثل هذه المحاضرات والكلمات والندوات واللقاءات المباركة فإني أنصحه ونفسي بألا يبخل على نفسه بما فيها من الفضل والثواب العظيم.

صحيح أنك تؤجر إذا استمعت إلى المحاضرة والحديث والخطبة في الشريط، كما أن الإنسان يؤزر إذا اشتغل باللهو وساقط القول ورديء الكلام، ولكن لحضور هذه المحاضرات والندوات واللقاءات في بيوت الله مزية لا يمكن أن نجدها في الاستماع أو في تصفح بعض المحاضرات عبر ما يسمى بالإنترنت مثلاً أو غير ذلك، وذلك للحديث الذي جاء فيه: (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده) وهذا أجر عظيم لا يتحقق عند سماع الشريط في البيت، أو تصفح المحاضرة في الصفحات الإلكترونية عبر الحاسب.

قد يقول قائل أيضاً حتى ولو كان واعظاً أو داعياً أو مرشداً، قد يقول: لو أنني بدلاً من إلقاء المحاضرة على عشرين أو خمسين رجلٍ في مسجد لو أني اقتصرت على المحاضرات في التلفاز والقنوات الفضائية واكتفيت فيها عن إلقاء المحاضرات في المساجد نقول: لا شك أنك عبر القنوات الفضائية تخاطب ملايين البشر، ومن مقاصد التبليغ أن تصل الكلمة والرسالة واضحة جلية إلى أكبر عددٍ ممكن من الناس كما قال موسى عليه السلام: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [الدخان:١٨] ولكن أيضاً أنت أيها المتحدث أو المحاضر أو الواعظ أو المرشد بحاجة إلى الفضل الذي يحتاج إليه ويسعى في طلبه الحضور الذين جاءوا لاستماع المحاضرة، فالمتكلم والسامع والملقي والمنصت، كلهم بحاجة إلى أن يستحضروا الثواب العظيم عند اجتماعنا ولقائنا في بيوت الله عز وجل لاستشعارنا أننا الآن برحمة الله وفي وجوده وفضله وكرمه، الآن الملائكة تحفنا، وتتنزل علينا السكينة، وتغشانا الرحمة، وهذا ثوابٌ لا تجده في قناة فضائية أو في سماعٍ بعيدٍ عن بيوت الله عز وجل، هذه مسألة ينبغي أن نستحضرها دائماً حتى لا نقول: الدعوة تطورت، والاتصالات تطورت، ولا حاجة إلى أن يجتمع الناس لهذه المحاضرات طالما يمكن أن نخاطب الملايين من البشر عبر القنوات وغيرها؟ لا.

نعم ينبغي أن نستغل وأن نستفيد مما هيأ الله عز وجل، ومن كل فرصةٍ سانحة، ومزاحمة أهل الشر بشيء من الخير لتذكير أقوام لا يشهدون الجمع ولا الجماعات، ولا يسمعون الأشرطة، ولا يقرءون الكتب من المقاصد الحسنة المطلوبة التي ينبغي لنا أن نلتفت إليها جميعاً.

المسألة الثانية: وهي في ظل المتغيرات وما يسمى بعصر العولمة والغزو الفضائي، قد يقول قائل: ليس هناك جدوى ولا فائدة من خطبة جمعة أو محاضرة أو كلمة يلقيها شيخ على ستين شخصاً أو ثمانين شخصاً في مكانٍ ما، والناس الآن يخاطبون الذين في بيوت الحجر والمدر، ما تركوا أحداً في وادٍ ولا قرية، ولا جبلٍ ولا سهلٍ، ولا وعر ولا بحر إلا وخاطبوهم عبر الاتصالات الفضائية، فما هي جدوى اللقاءات في المساجد والناس في عصر العولمة والاتصالات، وإني أقول: لا تزال لهذه المحاضرات والخطب والندوات في المساجد أدوارٌ عظيمة ومهمة وذلك أن الكلمة الطيبة -كلمة لا إله إلا الله- بشروطها وحقوقها وما تقتضيه وما يجب لها وما ينبني عليها؛ أن هذه الكلمة الطيبة حينما تقال في رياض الجنة ويستمعها أقوامٌ جاءوا لا لغرضٍ من أغراض الدنيا، وإنما جاءوا استجابة وامتثالاً لأمر الله وطلباً لثوابه وخوفاً من عقابه، فإن الكلمة الطيبة لها أبلغ الأثر: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:٢٤ - ٢٥] فينبغي ألا نتهاون بشأن المحاضرات والندوات والخطب والكلمات حتى وإن تيقنا غاية اليقين أن جمهور المستمعين عبر الوسائل الإلكترونية الحديثة المعاصرة أضعاف أضعاف جمهور المستمعين في المساجد وفي حلق الذكر ورياض الجنة، وذلك أن التلقي والاستماع والاجتماع في هذا المكان وأمثاله له مزية فضلٍ وبركة، والله إن بارك في شيءٍ نفع، والبركة شأنها عظيم، وكلنا مدعوون لطلبها والسعي في تحصيلها، بل نحن في كل أحوالنا نسأل ربنا البركة حتى في السلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حتى في الأكل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، حتى إذا دعونا لأحدٍ ضيَّفنا: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، حتى من نهنئه في الزواج: بارك الله لك وبارك عليك، حتى في الثناء على الله: حمداً كثيراً طيباً مباركاً، بل إن عيسى عليه السلام يمتن أو يذكر نعمة ربه ومنة خالقه عليه وهي منقبة له حيث قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:٣١].

فالبركة -بإذن الله- إن لم تكن في مثل هذه اللقاءات فقل لي بربك أنى تكون؟ لذا ينبغي أن ننتبه لهذا حتى لا نزهد في الخير الذي بين أيدينا في مقابلة البهارج والصياح والعويل إلى غير ذلك في الوقت الذي نقول فيه: إننا مأمورون مدعوون ألا ندع مجالاً من مجالات تبليغ الحق إلا وسلكناه وبلغناه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:٣٣].