للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[غش الرعية]

أيها الأحبة: واجبنا مراراً أن ننتبه لهذه المسئولية وهي مسئولية كلنا يحاسب عنها: كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، بل يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائلٌ كل رجلٍ عما استرعاه حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) أوليس هذا أمراً عظيماً؟ إن الواحد لو كان أمين صندوق وجاء يوم الجرد لاحمر وجهه، وخفق فؤاده، خشية أن يضيع مما استودع شيئاً من حطام المال قليلاً كان أو كثيراً، لكن لا يبالي حين يضيع من أولاده خمسة، أو لا يبقى من العشرة إلا اثنان لا يبالي أبداً، وهذا -أيها الأحبة! - من الجهل العظيم، بل إن ذلك غاية الغش والظلم والخديعة والخيانة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة).

ما تقولون في رجلٍ غش رعيته، وهم زوجته وأولاده وبناته وأهل بيته؟ غشهم فما أمرهم بالصلاة، وما نهاهم عن المنكرات، بل جعل البيت مسرحاً ومستودعاً لكل ألوان الفجور والفساد، وحجته بذلك أنه لا يريد أن يكون مطوعاً، لا يريد أن يكون متشدداً، لا يريد أن يكون متزمتاً، بل يريد أن يكون منفتحاً متساهلاً، معتدلاً متوسطاً، من الذي قال لك إن هذا هو الاعتدال؟ إذا كان هذا الذي يفعله بعض الناس اليوم من الرضا بالمنكرات في بيوتهم، وتربية بناتهم على التبرج والسفور، والسماح للزوجات أن تكون الواحدة منهن خراجة ولاجة، لا شغل لها إلا الذهاب والإياب، ولا يعرف شيئاً عن بيته، فلا يبالي أن يكون هو الذي سعى في تدمير بيته وتدمير أسرته.

كثيرٌ غشوا زوجاتهم وأولادهم وبناتهم وضيعوهم غاية الضياع، وأهملوهم غاية الإهمال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيمن كان هذا حاله: (يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة).

إن غاية الإثم أن يضيع الواحد من يقوت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) وملاك ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:٦] كل واحدٍ منكم من يسمعني الآن، أو يسمع هذا الكلام بالشريط بعد الآن، كل واحدٍ منكم إما أن يكون أباً، وإما أن يكون ولياً، أو سيكون أباً عن قريب لا بد أن يتحمل مسئوليته وأن يستعد لهذه الأمانة التي ثقلت على السماوات والأرض وحملها الإنسان: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:٧٢].

أخي الحبيب: إنك يوم أن تعتني بصلاح أولادك وتعتني بتربيتهم وتترك كثيراً من حظوظ نفسك وشهواتها من السهر مع أصدقائك وزملائك، وتحرم نفسك من بعضها في سفراتك وذهابك وإيابك، لتجعل أهلك وأولادك أحق بذلك من هذا كله تذكر أنك تساهم في بناء مجتمعٍ صالح، وتسعى في تكوين أمة مسلمةٍ، نحن بأمس الحاجة إلى إيقاظ جذوة الوعي والشعور اليقظ فيها، يقول ابن القيم رحمه الله: وكم من رجل أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء.

اسمع هذه الكلمة من مربٍ فاضل وعالمٍ جليل يقول: وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته: -يعني: أغلب فساد الأولاد- من قبل الآباء، انتهى كلام ابن القيم من تحفة المودود في أحكام المولود.

أحبتي في الله: بعض الآباء الكرام إذا رأى من أولاده تمرداً أو انحرافاً بدأ يتذمر ويشتكي، وما علم أنه هو السبب الأول في ذلك التمرد والانحراف، بل شأنه كما قال الأول:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

بل يجعل ولده كغنمة في قطيع من السباع والذئاب ويقول: من الذي نهشها؟ من الذي تعرض لها؟ من الذي اعتدى عليها؟!

ومن رعى غنماً في أرضِ مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد

هذا شيء لا شك فيه، والخلاصة: أن بعض الآباء يدري ما يعمل ابنه لكنه يتعامى وكأنه ما رأى، يقال له: يا فلان! ولدك رئي البارحة ومعه باكت دخان ويدخن في والزاوية الفلانية، يقول: سيهديه الله إن شاء الله، يا فلان! ولدك رئي البارحة مع شباب أكبر منه سناً سيماهم سيما أهل الفجور، يقول: سيهديه الله سيهديه الله، وهو ولد ليس عليه خطر فهو رجل، الخطر على الحرمة -على الأنثى- أما الولد ما عليه خطر، يا فلان! ولدك تغيب عن المدرسة يقول: بكيفه إن نجح فلنفسه، وإن فشل فعلى نفسه، يا فلان! الولد ظهرت عليه العلامات التالية، بل وأقبح من ذلك جريمة الأم التي تتستر على جرائم الأولاد، أم تفتش ثياب الولد تجد سيجارة فتقول: اسكت اسكت وتنتبه أن يعلم أبوه، صبوا عليها سيبون في الحمام وكأننا ما رأينا ولا درينا، لو درى عنه سيذبحه، دعيه يقطعه، دعيه يجلده، هذا أوان التأديب، لكن جريمة من الولد يتبعها جريمة تسترها الأم، ويكملها جريمة غفلة الأب، ثم تكون النتيجة ما يكرهه الإنسان ولا يحمد عاقبته.