للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عداوة الإنسان لنفسه]

إذاً: فلا تنزعج من وجود العداوة، ولا تعجب، فالعداوة موجودة من نفسك لنفسك عداوة من نفسك لأذنك، وعداوة من نفسك على لسانك، وعداوة من نفسك لعينك، وعداوة من نفسك لفرجك، وعداوة من نفسك لجيبك عداوة من نفسك لأذنك؛ أن تصرفك عن سماع ما ينفعك إلى سماع ما يضرك.

حب الكتاب وحب ألحان الغناء في قلب عبدٍ ليس يجتمعان

والإناء إذا ملأته تراباً لا مكان للماء فيه، والقلب إذا ملأته بالملاهي لا مكان للذكر فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فإذاً هناك أولاً: عداوة من نفسك لنفسك في أذنك بسماع كل شر، وكما قال ابن القيم في الجواب الكافي: ثم يعقد الشيطان عرشه-أي: كرسيه- ويدعو جنده من الجن والشياطين، ويقول: عليكم بثغر الأذن، فلا يدخل معه شيء يطردكم عمَّا تربعتم إليه، فإن غلبتم، فجاهدوا حتى لا يصل ذكرٌ إلا ضعيفاً لا يؤثر، وعليكم بثغر العين، فاجعلوا نظرها تلذذاً لا تفكراً، واجعلوا نظرها باباً إلى رسم الأماني والخيال، بتصرف وبمعنى كلام ابن القيم رحمه الله.

فإذاً من نفسك شرٌ على عينك أن تنظر إلى هذه الصور، وأن تنظر إلى ما حرم الله جل وعلا، وكم من رجلٍ قتل نفسه بسلاحه، هل رأيت رجلاً أخذ المسدس، ثم قلب فوهة المسدس، أو الرشاش، ثم وجهها إلى قلبه، ثم أطلق النار، نعم، ذلك الذي قتل نفسه بلحظه.

يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصبِ

فالإنسان هو الذي يقتل نفسه بنفسه، وتعرفون الأبيات التي يقول فيها القائل:

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ

من الناس من إذا رأى صورة حرام جعل رجله وعينه ويده وشعر رأسه، جعل كل ذلك عيناً تلتهم الصورة، وتتأمل هذا المنظر بفتنة وشهوة واجتهاد، مسكين لا يدري أنه يقتل نفسه، ولو أن هذا المسكين يوم أن رأى صرف بصره، ولو أن هذا المسكين تأمل جميع صنع الله جل وعلا، الله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [محمد:١٠]، فالنظر مطلوب، الله جل وعلا ما خلق عينك حتى تجعل عليها نظارة سوداء لا تبصر بها أبداً، إنما خلق العين لكي تنظر بها وتتفكر.

فيا أخي الكريم! تفكر كيف رفعت السماء بغير عمد؟ ولو دخلت صالة من صالات القصور الضخمة، فوجدت مائة متر بلا عمود واحد، لهالك الأمر في دقة الإنشاء والتصميم، وتقول: كيف وجدت صالة مائة متر مربع ليس فيها عمودٌ واحد؟! فيا حبيبنا! انظر إلى السماء التي رفعت بغير عمد! وإذا رأيت قنديلاً عظيماً جداً يضيء في بلد، ومفتاحه في بلد آخر، تعجب من هذا الأمر! ولكن انظر إلى هذه الشمس التي هي سراج تنير الدنيا كلها، وما جاءت شاحنات تعبيها بالبترول من أجل أن تشتعل، وما جاءت جهات معينة تعطيها الوقود، بل خلقها الله جسماً مضيئاً، فلماذا لا تتفكر وتتدبر؟! {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١]، لماذا لا تتفكر وتتدبر أيضاً في نفسك؟! أنت يوم أن كنت جنيناً صغيراً في بطن أمك، وأول ما يكون الإنسان في رحم المرأة يكون نطفة، ثم يكون علقة، ثم مضغة، ثم هذه المضغة تبدأ تأتيها الخلايا بأمر الله تتخلق فيها، وإذا بلغت الأشهر نفخت فيها الروح، ثم أخذت تنمو، فذهبت خلايا لتبني الأذن، خلايا مفصلة لإيجاد الزاوية التي فوق الأذن بالضبط، شحمة الأذن وزاوية، وشيء من المادة شبه العظمية الرقيقة جداً، كل خلية تذهب لتعطي هذا الدور في نفس المكان، وخلية تذهب لإنبات الشعر على العين والجفن، وخلية تذهب لإيجاد الطبقة الرقيقة على الشبكية أو القرنية، وخلية تذهب لبناء الشفة الرقيقة، وخلية تذهب لبناء العظم الصلب فيا إخوان: هل رأينا يوماً رجلاً نبتت أذنه في ركبته؟! أو رأينا رجلاً نبتت عينه في ظهره؟! أو رأينا رجلاً ظهرت أنفه في ساقه؟! هذه الخلايا ما الذي دلها وأعطاها مخططاً لكي تتجه الخلية رقم كذا إلى الموقع كذا، وتباشر العمل في مكان كذا! هذا هو التفكر، لكن عداوة الشيطان، والشر والأعداء من نفسك ومن أعدائك، وأولهم الشيطان، يصرفك عن تدبر ما ينفعك إلى إشغالك بما لا ينفعك، وأقل الأحوال أن تشتغل بالتافه عن العظيم، وبالحقير عن الجليل، والآن انظر إلى رجلين: أحدهم قد شنف آذانه، والآخر يسمع أغنية للمطرب الفلاني ويرددها: يا ليل يا عين، يا ليل يا عين، يا ليل يا عين، وانتهى الليل، وما رأينا ليلاً ولا عيناً، وبعد ذلك كتبت سيئات، وقام مهموم القلب في حسرة وقلق، وبمقدار سماع ذاك للأغنية انظر إلى رجل أخذ يسمع كلام الله، أو يتلو كتاب الله، له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.