للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاحتواء والتجيير]

قلنا: الهدف الأول من العداوة هو: الفتك والقتل وإزهاق الروح والإبادة بكل معانيها.

المرحلة الثانية من صور العداوة المغلفة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ظاهرها المودة وباطنها الكراهية عداوة ظاهرها الوئام وباطنها الخلاف عداوة ظاهرها الرفق وباطنها القسوة والوحشية ألا وهي: عداوة الاحتواء والتجيير، وهي ما تسمى بعداوة غزاة الأفكار.

إن المسلمين وإن كانت الكثير من دولهم اليوم قد نالت الاستقلال، ورسمت حدودها بعد اتفاقيات سايكس بيكو وغيرها، إلا أنها انتقلت من مرحلة العداوة الصريحة المعلنة عداوة الفتك والإبادة إلى عداوة الاحتواء والتجيير، فبدلاً من أن ينزل عشرة آلاف جندي فرنسي إلى الجزائر يقتلون الناس، خطط المستعمر الكافر أن يوجد من أبناء الجزائر من يحافظ على أرواح الجنود الفرنسيين في قلب باريس، ويقوم الجزائري بقتل الجزائري، والمغربي بقتل المغربي، والتونسي بقتل التونسي، وكلٌ يقتل من بني جلدته، هذه الطريقة التي صرح بها القس صموئيل زويمر في مؤتمر القاهرة عام (١٩٣٤م) لما عقد المؤتمر في الإسكندرية، وقام المنصرون يعرضون جهودهم، فكلٌ يقول: نصرت كذا ثم عاد إلى الإسلام، ودفعت كذا، وتنصر اثنان ثم عادوا، تنصر ثلاثة ثم عادوا، ولما أنهوا استعراض أعمالهم، وأنهوا استعراض مشاريعهم، قام القس صموئيل زويمر، وقال: اسمحوا لي معاشر القسس والرهبان رجال الكنيسة الأفاضل! إنكم حتى الآن لم تعرفوا مهمة التنصير، إن دورنا أن نخرج المسلم من الإسلام، وليس ضرورة أن ندخله في الكنيسة والنصرانية، إن دورنا أن نعد في بلاد المسلمين عضواً منهم يقاتلهم ويطعنهم، ويؤذيهم، وإن دورنا أن نحافظ على قطرة دم نصراني، فلا تراق هناك، ثم استشهد بقول القائل: إن الشجرة لا يقطعها إلا غصن من أغصانها! العداوة قد تكون في البداية ظاهرة

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطبُ

أحياناً تكون العداوة ظاهرة، لكن العداوة الظاهرة -بالمناسبة- تدفع النفس إلى الانتقام، وتدفع المتفرقين إلى الاجتماع، وتدفع الضعفاء إلى جمع الشمل على القوة العداوة الظاهرة تثير في النفس النخوة والحمية والإباء، حتى ولو استشهدوا واستماتوا وقتلوا، لكن العداوة المغلفة التي هي عداوة غزاة الفكر، عداوة الاحتواء والتجيير، فوائدها كثيرة، فإن كانت العداوة الصريحة فيها خسارة أرواح، فإن عداوة الاحتواء والتجيير هي عداوة ليس للأعداء فيها ضحية في روح أبداً، إن تكاليف نقل السلاح وأخطار التدخل السريع قد تكون باهظة جداً، لكن عداوات الاحتواء والتجيير لا تكلف هذا كله أبداً، رب عداوةٍ كانت مباشرة، فالتأم جرحها سريعاً، لكن عداوة الاحتواء والتجيير يطول ويطول علاجها، وشعوب المسلمين اليوم بعد أن جرب الأعداء فيهم عداوة القتل من خلال سنين الاستعمار، والاستعمار -بالمناسبة- حتى الآن لم يعرض عرضاً جيداً حقيقياً، إن الإعلام العالمي لو يسخر لتصوير واقع الاستعمار مع الدول المستعمرة؛ لأصبح الناس يكرهون شيئاً اسمه المستعمر ودول الاستعمار كما يكرهون السم في الطعام، لو صور للناس ما فعل الهولنديون في إندونيسيا، وما فعل الإيطاليون في ليبيا، وما فعل الفرنسيون في الجزائر والمغرب وتونس، وماذا فعل البريطانيون في الهند، وما فعل المستعمرون في كثير من الدول لو صور الإعلام حقيقة ما فعله المستعمرون؛ لأصبح عند الناس حساسية شديدة جداً، لكن الإعلام العالمي لا شك أنه يُخطط ويقاد -إلا ما رحم الله منه- بأيدي يهود، ولأجل ذلك يكون اهتمام الإعلام العالمي بقضايا أخرى تمييع عقائد، وجمع بين متناقضات، وتأليف بين مختلفات، وصرف الناس عن التذكير بأمور أخرى، صرف الناس عن التذكير بأمور ربما كان من غاياتها أو من أهدافها إثارة الناس، أو كانت تؤدي إلى ذلك، هناك فيلم مع أنه لم يخدم من حيث الرسالة الخفية إلا شيئاً قليلاً، وهو فيلم عمر المختار أنتج عليه ملايين، ولعل بعضكم اطلع عليه، وليست هذه دعوة إلى الأفلام، ولكن أقول: احتج من اليهود طائفة، واحتج من المستعمرين طائفة، وقالوا: إن هذا الفيلم يثير الأحقاد علينا! نعم.

ولو صورت الحقائق على وجهها الصحيح لرأيتم كيف يكون موقف الناس تجاه العداوة، عداوة التجيير.

فالحاصل أن عداوة الاحتواء والتجيير عداوة خطيرة جداً، إذا عجز العدو عن العداوة المباشرة -عداوة الإبادة والقتل الجماعي- ينتقل إلى عداوة الاحتواء والتجيير، وربما لمصلحة وليس لعجز، ومن أجل هذا يكون العدو جاهزاً، يبقى عدونا قابعاً في عاصمته، وعبر أجهزة الدس والمؤامرات والخونة والخيانات تصنع التمثيليات على مسرح الواقع، يمثل الممثلون الذين يعرفون الدور، ويدخل في التمثيلية الذين هم هدف الفيلم بالكامل، ثم تدور الدائرة على الرءوس، ويسدل الستار على المسرحية، ويخرج الجمهور من المسرح، وتفتح صفحة جديدة لقضية جديدة في واقع العالم الإسلامي.

إن عداوة الاحتواء والتجيير عداوة خطيراً جداً جداً، ولأجل ذلك كان علينا أن ننتبه لعداوة أعدائنا، وقد ننسى يوماً كنا نسب فيه، أو نشتم فيه عدواً، وصافحناه اليوم، لكن لا يعني ذلك أن عداوته قد زالت من قلبك، أنت لا تقيس الناس على طيب قلبك خاصة أعداء الدين، لا تتصور أنهم ينسون أنك مسلم، قبل كل شيء وأولاً وآخراً أنت مسلم؛ ولأجل أنك مسلم فالعداوة باقية، والتعامل معك بحذر.

قيل لرجل من رجالات الساسة: من هو عدوك في المنطقة الفلانية؟ قال: ليس لنا عدوٌ دائم، وليس لنا صديقٌ دائم، إنما لنا مصالح دائمة، فلو كانت القضية قضية عداوة واضحة لعرفناها وفهمناها، لكن العداوة الجديدة عداوة الاحتواء والتجيير أن يستغل أبناء الأمة لكي تطعن الأمة بالسيوف التي صنعتها، وتقتل الأمة بالسلاح الذي أنتجته، ويذبح أبناء الأمة شبابها ورجالها، ويغتصب نساء الأمة أبناؤها وشبابها، هذا ما يخطط له العدو من خلال البرنامج الطويل الذي يسمونه: البطيء المؤكد، برنامج الغزو الفكري الذي أقبل الناس عليه الآن زرافات ووحداناً، فالذي ليس عنده تلفزيون مسكين، والذي ليس عنده فيديو مسكين، والذي ليس عنده أنتل مسكين، ما ركب الأنتل الذي يأتي بـ ( mbc) أو البث المباشر، والذي ليس عنده دش (ستلايت) مسكين ما أتى بالقنوات الأخيرة! ولماذا نذبح أنفسنا بأنفسنا؟! لماذا نقتل أرواحنا بأيدينا؟! لماذا نطعن قلوبنا بسهامنا؟! الناس من عداوة أنفسهم لأنفسهم يجلبون ما يطعنون به أنفسهم، ويتسلطون به على أنفسهم إلا من رحم الله وقليل ما هم.