للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفات مع الامتحانات الدراسية]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل، وعن الند والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء؛ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى.

معاشر المؤمنين: في هذه الأيام يستقبل شباب هذه الأمة المباركة بجميع مستوياتهم وتخصصاتهم العلمية والمهنية موسماً يستدعي تحصيلاً مثمراً، ليخوضوا غمار الامتحانات غداً، وكل منا أيها المسلمون ينبغي أن يقف وقفة لا بد منها أمام هذه الامتحانات ليرسم لنفسه خطوطاً عريضة تهديه إلى الهدف من تلك الدراسة، وتبين السبيل إلى النجاح فيها إن كان دارساً أو طالباً، وكل واحد منا -يا عباد الله- لا بد أن يكون مدرساً أو متعلماً أو دارساً متعلماً، أو أباً لأولاد متعلمين أو شخصاً له علاقة بمعلم أو بمتعلم.

فأما بالنسبة للطالب الذي يبذل قصارى جهده في هذه الأيام، فينبغي له أن يعي أموراً عديدة من أهمها: أن يخلص النية لوجه الله جل وعلا في دراسته التي سيتقدم الامتحان فيها، وأن يجعل قصده رضا الله سبحانه وتعالى، وذلك لأنه إذا كان بدراسته مستحضراً أمامه الوعد الجزيل الذي رفع الله به المتعلمين في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث يقول جل وعلا في محكم كتابه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١] ويقول الله سبحانه وتعالى -أيضاً-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩] ويقول صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) هذا إذا كان من طلبة العلوم الشرعية التي بها حياة الأرواح والأبدان وصلاح المجتمعات والأمم.

وإن كان من طلبة العلوم الأخرى؛ فعليه أن ينصب أمام عينه حاجة المسلمين إلى علمه هذا، وتعليم ذلك لأبنائهم، وأنه ينبغي للمسلمين ألا يبقوا عالة على غيرهم في تلك المجالات، وأن ذلك الطالب يقوم بأحد فروض الكافية التي يأثم المسلمون بإجماعهم على تركها والتهاون بها، ويرتفع الإثم عنهم إذا قام بها فرد أو طائفة منهم، وإن كنا نلاحظ في هذه الأيام حرص المجتمع وعنايته بهذا الموسم، فالشاب تراه مكباً على الدراسة، والأب لا يألو جهداً في التشجيع والوعود الجزيلة بعد النجاح، والأم لا تدخر وسعاً في توفير اللازم وتأمين الراحة لابنها، وفي إعداد ما يلزمه من مأكل ومشرب وترتيب دقيق لمواعيد النوم والاستيقاظ، فتراها توقظه في الصباح الباكر وقد أعدت له كل ما يحتاج إليه، وقد اعتنت بمواعيد مذاكرته ومراجعته.

ثم الأب يقوم بنقل ابنه إلى المدرسة وإلى مقر الامتحان، وكل هذه جهود مشكورة للآباء والأمهات، ودليل لا شك على صدقهم وعلى عمق المحبة التي يكنونها لأولادهم وبناتهم، ولكن أمام هذا كله نطرح سؤالاً وهو: هل نرى هذه العناية بالأبناء والبنات في جميع مواسم السنة الحافلة بالخيرات والأجور الجزيلة؟ هل نرى هذا الاهتمام بالأبناء والبنات في أمرهم بالصلوات والحض على المحافظة عليها جماعة، ونهيهم عن المحرمات، ومراقبة جلسائهم وخلطائهم؟ وليسأل الطالب نفسه -أيضاً- وليفسر اهتمامه البالغ بالامتحانات دون غيرها من مواسم العبادات.

واعلموا -يا عباد الله- وخاصة أنتم أيها الشباب المندرجون في مراتب الدراسة أو على أبواب التخرج منها، تذكروا أن شهاداتكم التي تحملونها، تذكروا أنها تأهيل علمي ليؤتمن الفرد بها على أمانة الأمة والمجتمع، وليكون كفؤاً قادراً على خدمة أبناء أمته وإخوانه المسلمين، وتذكروا أن الشهادة والوثيقة ليست هي العلم كله بل هي أبواب العلوم ومفاتيح المعارف، فليحرص كل واحد منا على مواصلة الاطلاع وطلب العلم، فلا تكن الشهادات الدراسية هي أكبر همنا أو مبلغ علمنا، فإن كنا كذلك؛ فقد خبنا وخسرنا.

أنت أيها الشاب المجتهد في دراستك: إن نويت بها دفع الجهل بها عن نفسك، وجلب نور العلم إليها، وخدمة أمتك، ونفع إخوانك المسلمين بما علمك الله، ووفقك له من علم حصلت عليه من دراستك؛ فأنت بهذا ممن أحسنوا النية والعمل، فيبارك الله لك فيما عملت وفي علمك، ويبارك لك في علمك بعد عملك، ويقنعك الله بما رزقك، وتنال بذلك خيري الدنيا والآخرة.

وأما إن كانت الشهادة والوظيفة وما ينجم عنها من مكافئة أو جائزة هي غاية الهم والدراسة، فأنت بذلك ضيعت على نفسك أجر النية العظيمة طيلة حياتك الدراسية، ولن تؤتى إلا ما قسم الله لك من الرزق، فبالنية تنقلب العادات والتكاليف إلى عبادات، وبالنية الصالحة تكتب دراستك في موازين أعمالك وترجو بها أجراً عند الله، وبصرف النية إلى قصد الدنيا وابتغاء حطامها لا تنال إلا التعب والحسرة، وإن واصلت الدراسة، فلن يأتيك إلا ما قُسم لك، ولا تدري هل يبارك لك فيه أم لا، وهل تقتنع بما رزقته أم لا.

فعلينا -معاشر المؤمنين- وعليكم معاشر الشباب أن تحسنوا القصد والنية في جميع الأحوال، أحسنوا القصد في الدراسة تنالوا بذلك خيراً عظيماً، ولو قلبتم النظر ­-أيها الإخوة في الله- في أصناف الدارسين لوجدتم القاصدين بذلك وجه الله، والذين يقصدون نفع الأمة وتعليم الجهلة، والدعوة إلى الله، تجدونهم مستقيمين في حياتهم، جادين فيها، غير معتمدين على أحد سوى الله.

أما أولئك الذين يطمحون إلى المكافأة والجائزة وحدها، أو المكانة المرموقة والشهرة الاجتماعية، فتجدونهم لا يبالون باستخدام أي وسيلة تؤدي بهم إلى ما يريدونه من نيل الوثيقة والشهادة، وترى بعضهم يفعل الأعاجيب في سلوك سبل الغش والتزوير في الامتحانات، وقد نسي أنه بهذا يخدع نفسه وأمته في المستقبل وهو لا يدري، وقد يعرض نفسه للحرمان من الدراسة عقوبة له على سلوك ذلك السبيل المنحرف.

أسأل الله جل وعلا أن يوفق شبابنا، وأن يفتح على بصائر قلوبهم، وأن يعلمهم ما جهلوا، وأن يذكرهم ما نسوا، وألا يخيب جهدهم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.