للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب الأخذ بجميع عرى الإسلام وشرائعه]

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

معاشر المؤمنين: تعلمون أنه كلما ابتعد المسلمون عن السنن فإن البدع تقترب منهم بحسب ما ابتعدوا عن دينهم، وما تركوا أمراً حسناً إلا وحل محله أمر قبيح، وهكذا النفوس إن لم تنشغل بالطاعات انشغلت بالمعاصي، وإن من الأفكار السامة الخبيثة التي حلت في قلوب بعض المسلمين المغترين ببريق الحضارة دون معرفة لحقيقة خوائها الروحي، وما تنطوي عليه من ألوان الدمار الاجتماعي والاقتصادي والتسلط السياسي، فكرة خبيثة يرددها بعض الناس ومن الشباب على وجه الأخص، تلكم هي فكرة تقسيم أمور الشريعة وأحكامها إلى قشور ولباب، ومظاهر وحقائق، وتراهم يبنون على هذا تهاونهم بترك أوامر الشريعة وتساهلهم بها بحجة أن الأهم والأعظم أكبر من هذا، وقضية الدين هي العقيدة والإيمان الذي هو في القلب، وأن الشريعة سمحة ميسرة، فلو جادلت أحدهم بالتي هي أحسن أَجْلَبَ عليك بِخَيْلِهِ ورَجِلِهِ، بأحاديث أو بكلام يظنه من الحديث ويفهمه فهماً سقيماً، ويضعه في غير مواضعه، فيقول لك: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) وإذا ناصحته أو دعوته أشار بيده إلى قلبه، وقال: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا.

وقد تراه حليقاً مسبلاً، متهاوناً بالصلاة مع الجماعة، مداهناً في أمر دينه، أو متساهلاً في أكل الربا، أو نيل المال بالباطل، ولو دار بينك وبينه حوار وأقمت الحجة عليه بوجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع في العقائد والأحكام لانفض النقاش بينك وبينه، متهماً لك بالسطحية والقشورية وعدم الغور في أصول الشريعة أو إدراك مقاصدها.

وهكذا يا عباد الله! تنقض عرى الإسلام وأحكامه عروة عروة، وكثير منهم يردد من حيث لا يدري أو من حيث يدري تلك الحجج الواهية والأفكار السقيمة التي استوردها من أعدائه جهلاً وغفلة، وصدرها الأعداء إليه حقداً وحسداً ومكيدة، تقول لأحدهم: صل مع جماعة المسلمين، وإياك والربا، أو وفِّر لحيتك وارفع إزارك، أو تنكر عليه صوراً يعلقها في بيته، أو تماثيل مجسمة وأصناماً لأشخاص أو أفراد في مجلسه، أو تحذره من سماع الأغاني الماجنة، أو تنهاه عن شرب الدخان ومجالسة جلساء السوء، ومع ذلك تراه غارقاً في كل هذه المعاصي والمنكرات، ويرد عليك مرة أخرى بكل جرأة قائلاً: لا تكن سطحياً متشدداً أو معقداً، الأمر أهم من ذلك، القضية قضية عقيدة، القضية قضية أمة إلى آخر هذا الكلام الذي لم يدرك حقيقته، ولو أدرك حقيقته لانبعث سلوكه طيباً سليماً من هذه العقيدة التي يدعو أن القضية إليها، والأدهى والأمَرّ من ذلك -يا عباد الله- أن ترى بعض أولئك راضياً عن نفسه، ويجعلها في عداد الصالحين رغم تلك المنكرات التي يرتكبها، ويزيده ضلالاً ووبالاً أنه يشعر بالرضا عن نفسه لماذا؟ لأنه يقارن نفسه بأولئك الذين يشربون الخمر ويسرقون ويرتشون، فيرى نفسه أحسن حالاً منهم، وقد نسي المسكين أنهم إنما وقعوا في الكبائر والفواحش يوم أن تهاونوا بالصغائر وأصروا عليها.

أيها الأحبة في الله: لا يخفاكم أن الذين يدعون هذا الأمر ويتساهلون ببعض أمور الدين بحجة أن التقوى هاهنا، أو أن الشريعة سمحة ميسرة، لا شك أنهم هم المحجوجون بقولهم وما يرددونه بأن مقتضى الإيمان والتصديق العمل والتطبيق، وثمار التقوى التي في القلوب العمل بالمأمور وترك المحظور، والدين كلٌ لا يتجزأ، وليس في الدين قشور ولباب، ويوم أن نصغي لقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:٢٠٨] يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: هذا أمر من الله لعباده المؤمنين به، المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ومعنى قوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:٢٠٨] أي: في الإسلام جميعاً كما قال ابن عباس.

وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر، أما دعوى أولئك الغافلين بقولهم: إن الدين والإيمان في القلب، لو سلَّمنا بهذا القول -أن الإيمان في القلب- على إطلاقه لجعلنا فرعون وأبا لهب وغيرهما من الطواغيت في عداد المؤمنين؛ لأنهم يؤمنون بالله، ويوقنون بوجوده وتصرفه في الكون، ولكنهم ضلوا وأضلوا يوم أن تكبروا وتجافوا عن عبادة الله والانقياد له، إذاً فلا يكفي في الإيمان أن يدعيه الإنسان دعوى من دون تطبيق وبرهان صادق على دعواه.

ثم إن الحس والملاحظة يشهدان بالارتباط الوثيق بين الظاهر والباطن، فمن صلحت سريرته استقامت علانيته، ومن ساءت وحادت عن جادة الصواب علانيته كان ذلك دليلاً على فساد باطنه، وهذا أمر ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة في كثير من كتبه حول كلامه عن هذا الموضوع، وفي اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم بين ذلك رحمه الله بقوله: والأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب بالقلب شعوراً وأحوالاً.

فالمشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:٢ - ٤].

أسأل الله أن يجنبنا وإياكم التساهل بأمور دينه وأحكام شريعته، وأن يجعلنا من الذين يمسِّكون بالكتاب ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.