للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان مفهوم سماحة الإسلام ويسره]

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإن جسومكم ووجوهكم على وهج النار لا تقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعملوا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.

معاشر المؤمنين: إن التساهل بأمور شريعة الإسلام وقولنا لبعض الأمور: هذا أمر يسير، وهذا أمر ليس من القضايا الأساسية، وهذا أمرٌ من سماحة الإسلام ويسره قد يتهاون به أو قد يجعله في ضمن الأمور المعذور عنها، جهلاً وفهماً خاطئاً من القائلين بهذا الكلام، إن هذا يجر إلى سقوط عرى الإسلام عروة عروة، وما وقع الناس في المصائب العظمى والبلايا الكبرى إلا يوم أن تركوا شيئاً من هذه الأمور، وتهاونوا واستساغوا ترك الواحدة بعد الأخرى، حتى وقعوا في الأمور العظمى وتساهلوا بالأمور الكبرى، ومن ثم ترى الواحد منهم قد أفلت جانباً كبيراً من جانب الدين بحجة اليسر والسهولة والمسامحة، وإن كثيراً من المسلمين ليفهمون سماحة الدين ويسر الشريعة فهماً سيئاً خاطئاً؛ بعض الناس يظن أن سماحة الدين ويسر الشريعة إنما هي أن يترك الإنسان شيئاً من المأمورات، أو أن يتهاون بفعل بعض المحظورات أو أي شيء من هذه الأمور، كلا والله.

ما أنزلت الشريعة وما أنزل القرآن إلا ليعمل به، إلا ليطبق جملة، وليتقي الله سبحانه وتعالى في فعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، أما ترك بعض الأمور بحجة أن الشريعة سمحة ويسيره، فهذا جهل لا حد له.

إن يسر الشريعة وسماحة الدين يرد في أمور: كقصر الرباعية حال السفر، وكالأكل من الميتة حال المخمصة، وكاستعمال التراب حينما يتعذر استخدام الماء، هذا مما يدل على يسر الشريعة، أما أن يتساهل الإنسان بأمور الدين ويظن أن هذا من يسر الشريعة فهذا جهل عظيم، قال مفتي المملكة الراحل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رحمة واسعة، وأعلى منازله في الجنة، ونور ضريحه: إن يسر الشريعة وسماحتها أي: أن مفردات الشريعة جاءت على السهولة كقصر الرباعية ونحو هذا، هذا معنى يسر الشريعة -ليس معناه ترك الواجبات، أو فعل المحرمات- بل يجب القيام بما أمر الله به من إقامة الحدود، فإن بعض الجهلة يظنون ويجعلون هذا تشديداً، وهذا من خداع الشيطان وما ابتلوا به، فإن ذلك قد بُين في الأحاديث وقد تبين معنى يسر الشريعة هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى: عندما يتضايق الحال كالرخص الشرعية كأكل الميتة حال المخمصة.

انتهى كلامه رحمه الله رحمة واسعة.

واعلموا يا عباد الله: أن دين المرء هو ما يملكه ويقدمه يوم القيامة، فمن تساهل بدينه أقبل على ربه ضعيفاً فقيراً إلى الحسنات قد أثقل كاهله، وحمل عبئاً عظيماً من الأوزار والسيئات، وإنه ينبغي للإنسان أن يحتاط لدينه، وأن يعلم أن الأمور مقيدة محسوبة مسجلة عليه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧]، ويقول جل وعلا: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:٧ - ٨]، ويقول سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩] فإن من تساهل بأمر دينه فإنما ذلك على حساب نقص حسناته وزيادة أوزاره وسيئاته، فاتقوا الله يا عباد الله واحتاطوا لدينكم.

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) فأصلحوا مضغ قلوبكم يا عباد الله! وانتبهوا لأنفسكم، وحاسبوا وراقبوا أنفسكم وأعمالكم، فغداً تقدمون على الله جل وعلا إن شاء الله بأعمال يسركم أن تروها في الموازين بمن الله عليكم وفضله، وتوفيقه إياكم في فعل الواجبات، وترك المحرمات، والعناية بأمر الدين والشريعة، لا التساهل بها.