للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خروج ابن الزبير على الأمويين]

ثم هذا نموذجٌ آخر عبد الله بن الزبير الفارس الشجاع المغوار، الذي لما مرت أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه وقد دخل عليها ثم قال: يا أماه إني أخشى أن يمثلوا بي -أي يجعلوه مثلة ويصلبوه- فقالت: يا بني! شد عليك سراويلك حتى لا تنكشف عورتك، واعلم أن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح.

لله درها من أمٍ شجاعة مغوارة تعلّم وتغرس في أبنائها الشجاعة، ولكن تأويل ابن الزبير أو ما كان من ابن الزبير رضي الله عنه ما كان محمود العاقبة فيما جرى له رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الجنة.

عبد الله بن الزبير لما حصل ما حصل من شأنه ثم صلبه الحجاج عليه من الله ما يستحق، جاءت أسماء وهي كفيفة قد عمي بصرها تتحسس ولدها مصلوباً فقالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، تشير وتصور أنه ما زال على حصانه بطلاً مغواراً، فلما علم الحجاج بمقولتها أمر بأن ينزل ابن الزبير من الخشبة ثم أرسل الحجاج إلى أسماء أن تأتي إليه فقالت: والله لا آتيه! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون في هذه الأمة كذابٌ ومبير) فأما الكذاب فعرفناه، وأما المبير فلا نراه إلا الحجاج، فلما سمع بمقولتها جاء إليها قال: سمعت يا أم أنك تقولين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في هذه الأمة كذابٌ ومبير) فأما الكذاب فـ مسيلمة وقد عرف، وأما المبير فعرفناه فما هو إلا الحجاج، قال: نعم أنا مبير المنافقين، قالت: كذبت قال: الحجاج يا أم إن ابنك ألحد في بيت الله، والله يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:٢٥].

أيها الأحبة! إن ما قيل وما سطر لا يمكن أن نسمح أن يُنال فيه من عبد الله بن الزبير بكلمة ولو صغيرة أو كبيرة، ولكن ابن الزبير لو علم رضي الله عنه واستقبل من أمره ما استدبر ما كان ليقدم على هذا، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.

عندما جاء نعي يزيد بن معاوية، لما مات يزيد سنة أربعٍ وستين قام ابن الزبير فدعا إلى نفسه وبايعه أكثر الناس وحكم الحجاز واليمن ومصر والعراق وخراسان وبعض الشام، ولكن لم يستوثق له الأمر ومن ثم لم يعده بعض العلماء في الخلفاء وعد دولته زمن فرقة، فإن مروان قد غلب على الشام ثم مصر وجرت أمورٌ طويلة وحروبٌ مزعجة، وجرت موقعة مرج راهط وقتل ألوفٌ من العرب وقتل الضحاك، واستفحل وعظم أمر مروان إلى أن غلب مروان على الشام، وسار في جيشٍ عرمرم فأخذ مصر واستعمل عليها ولده عبد العزيز بن مروان، ثم دهمه الموت فقام بعده ولده الخليفة عبد الملك بن مروان فغلب عبد الملك على العراق مع الشام، ثم بعث عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، بعث الحجاج إلى ابن الزبير فحاصر ابن الزبير في مكة ونصب المجانيق على جبل أبي قبيس، وعلى جبل قعيقعان فكان الأمر العجيب الخطير يا عباد الله.

المجانيق تضرب في وسط بيت الله، المجانيق تقصف جدران الكعبة، فلم يكن أحدٌ يقدر على أن يطوف بالبيت من شدة قصف المنجنيق، من شدة تلك الفتنة، فأسند ابن الزبير ألواحاً من الساج على البيت وألقى عليها الفرش والقطائف، فكان إذا وقع حجرٌ وقع عليها ونبا عن البيت وكان الناس يطوفون دون الألواح واستمر حصار الحجاج لـ ابن الزبير في مكة ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة وبيت الله يضرب بالمنجنيق، في تلك الفتنة القديمة، وانتهت تلك المأساة بقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ووالديه وأرضاه.

عن المنذر بن جهم قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد خذله من كان معه خذلاناً شديداً؛ جعلوا يتسللون ويهربون إلى الحجاج، وهكذا شأن الذين يسيرون في الدهماء والغوغاء، أو إذا خرج خارجٌ أو زعم زاعمٌ أن سيخرج تكاثر الناس حوله، فإذا انكشف الأمر وكشفت الحرب عن ساق:

ستعلم حين ينكشف الغبارُ أخيلٍ تحت رجلك أم حمار

حينما تشتد الأمور ما أقل من يصمد ويثبت، ولذا فلكل من ظن أن الكثرة هي سبيل للتغيير أو الإصلاح فليعلم أن الكثرة لا تغني شيئاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.

عن المنذر بن جهم قال: رأيت ابن الزبير لما قتل وقد خذله من كان معه خذلاناً شديدا وجعلوا يتسللون إلى الحجاج، وجعل الحجاج يصيح: أيها الناس! علامَ تقتلون أنفسكم؟ من خرج إلينا من ابن الزبير فهو آمنٌ عندنا، لكم عهد الله وميثاقه، ورب هذه البنية ورب هذا البيت لا أغدر بكم ولا حاجة لنا في دمائكم، قال: فقام الناس يتركون ابن الزبير ويتسللون أكثر من نحو عشرة آلاف قال: فلقد رأيت ابن الزبير وحيداً ما معه أحد.

وعن إسحاق بن أبي إسحاق قال: حضرت قتل ابن الزبير وجعلت الجيوش تدخل على ابن الزبير من أبواب المسجد فكان كلما دخل قومٌ من باب حمل عليهم وحده حتى يخرجهم، يقتل من يقتل ويجرح من يجرح ويطرد من يطرد وكان ابن الزبير شجاعاً شجاعاً شجاعاً ربما ضرب الرجل ضرب بصاحبه فقتلهما جميعاً، وربما اخترط بسيفه رجلين في ضربة واحدة، لم يكن له مثيلٌ في الشجاعة، إلا من فاقه من الصحابة وأشجع القوم صلى الله عليه وسلم، قال: فكان كلما دخل عليه قوم حمل عليهم حتى أخرجهم، فبينما هو على تلك الحال إذا وقعت شرفة من شرفات المسجد على رأسه فصرعته وسقط وهو يتمثل

أسماء يا أسماء لا تبكيني

لم يبق إلا حسبي وديني

وصارمٌ قد لان في يميني

يعلق الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء على ذلك فيقول: فيا ليت ابن الزبير كف عن القتال لما رأى الغلبة، بل ليته لا التجئ إلى البيت ولا أحوج أولئك الظلمة والحجاج لا بارك الله فيه، إلى انتهاك حرمة بيت الله وأمنه، فنعوذ بالله من الفتنة الصماء، هذا من كلام الذهبي في سير أعلام النبلاء.

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الخلفاء: صلبوا ابن الزبير منكسا، وأخرج مسلم في صحيحه أن عبد الله بن عمر بن الخطاب مر على عبد الله بن الزبير وهو مصلوبٌ فقال: السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير.

الله أكبر هذا كلام عبد الله بن عمر وقف على ابن الزبير رضي الله عنه وهو مصلوب فيقول: أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، يعني أنهاك أن تطلب البيعة لنفسك، وآمرك أن تسمع لمن أعطاه المسلمون البيعة.