للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سعة رحمة الله ومغفرته للذنوب]

اعلموا -يا عباد الله- أن العبد المذنب إذا تاب وأقلع عن الذنوب والمعاصي فإنه يكون بأمس الحاجة إلى رجاء رحمة ربه وعفوه وغفرانه، إذ أن بعض العصاة والمذنبين يردهم اليأس والقنوط عن التوبة والإنابة، ولا شك أن هذا من كيد الشيطان ووسوسته.

حينما يأتي الشيطان إلى العبد فيقول له: أذنبت وعصيت وفعلت ما حرم الله عليه فأنى لك بالتوبة؟! وكيف تدرك التوبة وقد فعلت ما فعلت وجنيت ما جنيت؟! ولا يزال الشيطان بالعبد يجعله يائساً من رحمة الله، ويقنطه من مغفرة ربه حتى يصل به إلى اليأس والقنوط، بل إن بعضهم قد يصل به الأمر مع الشيطان أن يقول له: اكفر بالله ثم أسلم لأن الإسلام يجب ما قبله ويمحو ما قبله.

ومن يضمن للعبد المسكين أن يعيش بعد كفره إلى أن يجدد إسلامه؟ وليس للعبد في هذه المرحلة وفي هذه المعركة الرهيبة مع الشيطان إلا أن يجدد رجاءه وعزمه بالله.

وعلى ذلك فالواجب على كل مسلم مهما كبرت ذنوبه ومعاصيه أن يتوب إلى الله توبة صادقة نصوحاً، ثم يكثر من الحسنات الماحية للسيئات، ثم يعظم رجاءه بربه ويحسن ظنه بخالقه، وليتذكر قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:٥٣] وقول الله أيضاً: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد:٦] وقول الله جل وعلا: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:١٠٢] وقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] وقول الله أيضاً: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٧٠] وقول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:٣١] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على سعة الله ومغفرته لعباده التائبين الأوابين المقلعين عن الذنوب، النادمين على ما سلف، الكارهين أن يعدوا إلى المعصية كما يكره المرء أن يقذف في النار.

وتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل أحدٌ الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله علي وسلم قال: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! قم فابعث بعث النار، فيقول: لبيك وسعديك والخير بين يديك، يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ يشيب المولود، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم وقالوا: يا رسول الله! وأيَّنا ذلك الواحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، فقال الناس: الله أكبر! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبر الناس فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [ليغفرن الله عز وجل يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر].

وفي السيرة في قصة سبي هوازن أن امرأة جاءت تسعى بين السعي فوجدت وليداً لها فأخذته فضمته إلى صدرها، ثم ألقمته ثديها والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر، والصحابة ينظرون فقال صلى الله عليه وسلم: (أتظنون أن هذه تلقي بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها).

وفي الحديث (إن الله جل وعلا خلق مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة في الأرض؛ فبها يتراحم الناس والوحش والسباع والطير والبهائم، وادخر تسعاً وتسعين رحمةً لعباده يوم القيامة) فأقبلوا على الله -يا عباد الله- وأبشروا بمغفرة الله إن صدقتم العدل والعهد والوعد مع الله، أقبلوا إلى الله وجددوا التوبة واستغفروا الله كثيراً، أنيبوا إلى ربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له، بادروا إلى الأوبة قبل أن تبلغ الروح الحلقوم.