للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المماطلة في القضاء]

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند وعن المثيل والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، كل ذلك تعظيماً لشأنه، أحمده حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

عباد الله: إن من المسلمين هداهم الله من يجد في أمواله ما يسد قضاء حقوق المسلمين عليه، ومع ذلك يسوف ويؤجل الوفاء برد الحقوق إلى أن يضطر صاحب الحق بشكايته وقيام الدعاوى بينها في المحاكم وغيرها، وما ضر المسلم إذا استدان من أخيه دَيناً أو ابتاع أو استأجر شيئاً أن يبادر برد الجميل والمعروف أداءً وزيادة، فإن ذلك كان من هديه صلى الله عليه وسلم، أنه إذا استدان من أحدٍ شيئاً وفاه خيراً منه، فعن أبي رافع رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجلٍ بكراً فقدمت عليه إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فرجع إليه أبو رافع فقال له: لم أجد في الإبل إلا خياراً رباعياً، فقال صلى الله عليه وسلم: أعطوه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) وكلكم يعلم -يا عباد الله! - أن الدين المعاملة، ومن المؤسف المحزن حقاً أن نرى رجلاً صالحاً كثير العبادة والإنابة يماطل في حقوق الآخرين، ومثل هذا عبادته لنفسه، وأما حقوق العباد فلهم، فليؤدِ الحقوق لأصحابها، وليحذر من وفاء أصحاب الحقوق عليه يوم القيامة من حسناته، وأياً كان الرجل الذي عليه الحق صالحاً عابداً أو غير ذلك، فإنه لا يمنع من عقوبته وأخذ الحق منه.

ثم إن هذا الفعل يورث ضعف الثقة بين المسلمين وعدم الأمانة في آحادهم، فقد يجيء الرجل الوفي الثقة في حاجة له إلى صاحبه المليء الغني يريد العون في الحاجة الملحة، ثم قد يتردد صاحبه؛ لأنه رأى من فلانٍ وفلان الذين يحسبهم كذا وكذا من الدِين والعبادة ما رأى من المماطلة وعدم الوفاء إلا بأساليب العنف والشكايات والقوة.

أخرج الشيخان والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم) وفي رواية ابن حبان في صحيحه والحاكم: (لي الواجد -أي: مطل القادر على الوفاء- على وفاء دَينه يحل عرضه وعقوبته) أي: يبيح أن يذكر بين الناس بالمطل وسوء المعاملة، وقال بعض التابعين: يحل عقوبته، أي: حبسه وسجنه حتى يؤدي ما عليه، وروى النسائي وابن حبان في صحيحه والترمذي والحاكم وصححه، والطبراني في الكبير (ما قدس الله أمةً لا يؤخذ لضعيفها الحق من قويها غير متعتع -ثم قال:- من انصرف غريمه وهو عنه راضٍ صلت عليه دواب الأرض ونون الماء -أي: حوته- وليس من عبدٍ يلوي غريمه، وهو يجد إلا كتب عليه في كل يومٍ، وفي كل ليلةٍ وجمعةٍ وشهرٍ ظلم).

عباد الله: أبعد هذا يتساهل مسلمٌ بالحقوق التي عليه، وإن كثيراً من الناس من يتهاون بالحقوق إذا كانت من حقوق الدولة، أو من القروض التي تقدمها تسهيلاً لهم في بنائهم، أو في مزارعهم أو في مشاريعهم، فإن الحقوق والديون الواجب الوفاء بها أياً كانت على الفرد من قِبَل الأفراد أو من قِبَل الدولة، وإن كثيراً من المسلمين الذين عاشوا في الضيق، وعاشوا في ضنك العيش في بيوت الطين الصغيرة، توسعوا وعاشوا ونالوا مما يسَّرته لهم الدولة، ومع ذلك يحل الأجل تلو الأجل ولا يسددون ما حل عليهم، أيظنون أن هذا الحق أهون من غيره من الحقوق؟ لا وربي، فهو دَّينٌ، بل هو موثق؛ لأن المستدين قد رهن عقاره وملكه لصالح الجهة التي استدان منها، فلا يبالي صاحب الحق بأي ساعةٍ أن يبيع ملكه أو عقاره ليستوفي منه.

ثم إن كثيراً من الناس بتساهلهم في أداء الحقوق خاصةً القروض العقارية والزراعية وغيرها، يحرمون غيرهم من الفرصة، ويحرمون غيرهم من الاستفادة مما استفادوا منه، وكلكم اليوم يرى أن من تقدم يريد بناءً لا يصله أجله إلا بعد ثلاثٍ أو أربع سنين، أو أقل أو أكثر، ولو أن الذين حلت عليهم آجال الحقوق وفوا بها لوجدتم أن الأمر عاد يسيراً كما كان، فاتقوا الله في الحقوق، واتقوا الله في أصحابها، فإنكم محاسبون ومؤاخذون عليها.

نسأل الله جل وعلا ألا يميتنا بحق مسلمٍ لا في مالٍ ولا في دمٍ ولا في عرض.

أيها الأحباب: لا تقولوا إن فلاناً وفلاناً لا يؤدون ما عليهم، أو أن فلاناً وفلاناً قد استدانوا ومرت عليهم السنون ولم يُسألوا، فإن الهالك إذا هلك فلا يكن لك فيه قدوة، بل عليك أن تسلك طريق النجاة لنفسك ودينك يوم القيامة، وعليكم -يا عباد الله! - بالمبادرة في رد وأداء الحقوق التي على موتاكم، فقد روى الترمذي بسندٍ حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه).

أسأل الله جل وعلا أن يقضي دَين المدينين، وأن يشفي مرضى المسلمين، وأن يهدي ضال المسلمين.

اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى فردوسك وجنانك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل إلى النيران منقلبنا وإليها مثوانا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أراد أئمتنا بسوء، وأراد علماءنا بفتنة، وأراد شبابنا بضلال، وأراد نساءنا بتبرجٍ وسفور، اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم فاجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أدر عليه دوائر السّوء برحمتك وقدرتك يا جبار السماوات والأرض يا سميع الدعاء! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم إن عظمت ذنوبنا فإن عفوك أعظم، وإن كثرت معاصينا فإن رحمتك أكبر، بقدرتك ورحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمامنا وقدوتنا ونبينا صلى الله عليه وسلم، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء، وارض اللهم عن بقية العشرة المبشرين بالجنة، وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا برحمتك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، وأشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.