للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام العامة]

ومن الأمور التي فيها شيء من الغرور والكبر: كلام العامة يقولون: من عرفك صغيراً احتقرك كبيراً، وهذه عقدة موجودة عندنا، أما عند الغرب وليس إعجاباً بهم، إذا رأوا فيه منذ الصغر شيئاً من النباهة والفهم والذكاء، فتجد له عناية ومعاملة خاصة.

يوجد في أمريكا برنامج اسمه رعاية النابغين، النابغون وفيه من الذين يقيسون قدرات الذكاء العقلي في المرحلة الابتدائية، وفي المرحلة المتوسطة، وفي المرحلة المتقدمة، فمثلاً: المرحلة الابتدائية فيها مائة ألف أو مليون طالب فيختار على عدد الأصابع من كل مدرسة من جاوز مقياس الذكاء العقلي عندهم حداً معيناً، وبالتالي يعطونهم عناية معينة خاصة بالنابغين، ثم بعد ذلك يفرغون لأبحاث تخص هذا المجتمع وتخص هذه الأمة، مكفيين في شأن أكلهم وشربهم ومعاشهم، والدولة مستعدة أن تقدم كل شيء، فالمهم أن نرعى هذا النابغ منذ الصغر رعاية خاصة؛ حتى ينتج لنا في المستقبل أمراً نستطيع أن نستفيد منه، وما القمر الصناعي الذي أطلقته إسرائيل قريباً ولا شك هو قمر تجسس ومحاولة جديدة لنقل المعلومات بأساليب متقدمة ومبتكرة، ولم يولد هذا القمر بين عشية وضحاها، بل ظلوا عشرين سنة في الأبحاث؛ ولد فيها علماء ومات علماء، ودخل أجيال وخرج أجيال في هذه الأبحاث، حتى خرجت إسرائيل بهذا القمر التجسسي الذي أطلقته.

والمسألة مسألة اعتراف بالآخرين وليست احتقاراً للآخرين، طائفة معينة من المجتمع ينظر إليها نظرة معينة فتعزل وحدها، ليست عزلة مقاطعة، تغزل في منهجها التعليمي؛ في معاملتها ودخلها في أمر معين من أجل أن تخدم مصالح الأمة خدمة متقدمة متطورة مبتكرة، فنحن أيها الإخوة! إذا استمرينا على مشكلة الغرور التي تفضي وتؤدي إلى احتقار الآخرين، فإننا لن نرعى نابغاً في مجتمعنا، ولن نقدم أحداً لكي يأتي يوماً ما فيعلو منبراً أو يقدم اختراعاً، أو يأتي بنظرية جديدة، وهذا خطر الغرور لا يعود على الفرد فحسب، بل ينقلب على المجتمع بأسره، لذلك فإن من علامة سلامة النفس من الغرور: أن يتمنى الإنسان الخير للآخرين ولو كانوا يفوقونه في سبيل خدمة أمته ومجتمعه، المهم أن الناس تقدم إلى الخير، أن الناس يرتقون بالأمة، أن الناس يقدمون أشياء نافعة للجيل والمجتمع، فهذا دليل صادق على عدم وجود الغرور المرتبط بالاحتقار والكبر وغمط الناس حقوقهم ودرجاتهم.

من الصور التاريخية الجميلة التي تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأجلاء بصفاء السيرة ونقاء السريرة والسلامة من الغرور: أن كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم ومعه ثلة من الصحابة يمشون في الطريق، فأوقفته عجوز فخضع برأسه وطأطأ وقال لها: ما حاجتك يا أمة الله؟ قالت: أنت عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وبالأمس يدعونك عمير، كنت ترعى إبل الخطاب.

انظروا عمق النصيحة وصدق المواجهة، وقوة قبول الحق في النفس وعدم الغرور، فسمع لها وطأطأ، ثم كلمته كلاماً طويلاً حتى شق ذلك على أصحاب عمر الذين وقفوا ينتظرونه، فلما انتهت وقضت حاجتها منه، عاد إلى أصحابه فكأنه وجد في وجوههم شيئاً، قال: [كأني أجد في وجوهكم ما أرى! أما تعلمون من هذه؟ هذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أفلا أسمع لها، هذه خولة بنت ثعلبة التي جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادله في زوجها فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:١]] سمع الله كلامها من فوق سبع سماوات، تقول عائشة: [جاءت المجادلة تحادث النبي صلى الله عليه وسلم، والله ما بيني وبينها ورسول الله إلا الستر، والله ما سمعت لها كلاماً وسمع الله كلامها من فوق سبع سماوات] يقول عمر: [هذه المجادلة أفلا أسمع إلى امرأة سمع الله كلامها من فوق سبع سماوات] والحاصل أن عمر قد خضع وطأطأ برأسه لها وسمع كلامها.

قمة إذابة الغرور من النفس، لا يوجد غرور ولا يوجد احتقار للآخرين مهما كانت منازلهم ودرجاتهم، وبالمناسبة الذين يُقيّمون الناس بالسيارات والمظاهر، والأسر والمال والمراتب والمناصب تقييمهم فاسد، العبرة من حيث القرب والدنو والبعد من الله جل وعلا، وبمقدار التقوى والحسنات والصالحات: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) رب أشعث الرأس، أغبر الجسم، ذي طمرين: ثياب بالية أطمار ممزقة، مدفوع في الأبواب، يدق الباب فلا يقال له: تفضل، مدفوع في الأبواب لو أقسم على الله لأبره.

إذاً أيها الإخوة: الناس لا يقدرون بملابسهم ولا بمظاهرهم ولا بمراتبهم ولا بمناصبهم، التقدير الحقيقي للناس هو بحقيقة مدى قربهم وبعدهم من الله، نعم إنزال الناس منازلهم أمر مطلوب، لكن التقييم الدقيق الشديد ليس فقط في هذه الملابس والمراتب والمناصب والأسر وغيرها.

في الحقيقة أيها الإخوة: يوجد احتقار من كثير من الناس لبني جنسه، والدليل على ذلك أن تجلس في مجلس ما، واطرح موضوعاً معيناً، تكلم في السياسة مثلاً، يقول لك: هؤلاء السياسيون أهل دجل وكذب لا يفهمون شيئاً، ولا يقضون حاجة، يكذبون على الناس؛ احتقار الآخرين وعدم تقدير الجهود بأي حال من الأحوال، اطرح موضوعاً آخر، تكلم مثلاً عن طائفة معينة، يقول: هؤلاء يتأخرون، لا يعطون الناس وجهاً، لا يتلفتون إلى آخره.

تعجب في كثير من المجالس أن تجد من الناس من لا يرضى عن أحد، أينما اتجهت بالحديث عن طائفة معينة في المجتمع، فهو ليس راضياً عن أحد أبداً كما يقولون: (لا يعجبه عجب، ولا الصيام في رجب) فهو ليس راضياً عن أحد أبداً، فمثل هذا الذي تجده دائم الاحتقار والانتقاد لكل فئة وطبقة من طبقات المجتمع، هذا في الحقيقة مصاب في قرارة نفسه بداء الغرور الذي جعله يحتقر الآخرين ولا حول ولا قوة إلا بالله.