للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعوة خير من العبادة]

لا يستوي الذين لا يجدون في واقعهم شيئاً من آلام المعاناة، وحسرة في رؤية المنكر، أو الضعف أو العجز في بعض الأحيان عن تغييره مع الذين لا يلتفتون قليلاً ولا كثيراً، أقول: حتى ولو كانوا ممن صنفوا الكتب أو قاموا الليل وصاموا النهار، واجتهدوا في الهواجر، وقاموا ليالي الشتاء لا يستوي أولئك مع الذين تتغير وجوههم لرؤية المنكرات في هذه الأرض.

إن العبادة أمرٌ قاصر، لا تحتاج فيه إلى مواجهة، ولا تحتاج فيه إلى كثير من المعاناة، أسهل ما عليك أن تأكل لقمة السحر، ثم تضع رأسك على وسادتك، ثم تصلي تتقلب بين بيتك ومسجدك، ثم تعود لتفطر هنيئاً مريئاً، لا تجد شيئاً قد غير ما أنت فيه، أسهل ما عليك أن تفتح كتابك في مكتبتك فتقرأ وتلخص وتجمع، وتُخَرِّج وتُحقق، وهذا خيرٌ عظيم.

وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمة

من الذين يبكى عليهم.

ولكن أيها الإخوة! لا يستوي هؤلاء مع الذين يجمعون مع هذا الدعوة والإنكار والتغيير بقلوبهم وبألسنتهم وبأيديهم حسب الضوابط الشرعية المرعية.

إذاً أيها الإخوة: ينبغي أن نعلم أولاً: أن الناس يتفاضلون في دين الله جل وعلا، ليس بقدر عبادتهم في شكلها أو طولها، أو قصرها، وإنما يتفاضلون بحسب ما يقوم في قلوبهم، ولذلك لما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه: (أنه لو وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان أبي بكر رضي الله عنه في كفة لرجح إيمان أبي بكر بسائر إيمان الأمة) وكيف يرجح إيمان أبي بكر بسائر إيمان الأمة؟ هل يستطيع أبو بكر أن يصوم رمضان بقدر صيام الأمة أجمع؟ هل يستطيع أبو بكر أن يحج ولو في كل لحظة فضلاً عن مرةٍ في كل سنة بقدر حجات أفراد الأمة أجمع؟ لا.

ولكن [أَمَا إنه ما سبقهم بكثير عمل، ولكنه بشيءٍ وقر في قلبه] ولما وقر هذا الأمر في قلبه استحق كرامةً ومنزلة من عند الله، والفضل لله أولاً وآخراً.

(لما تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠] قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما أحسن من يقال له هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك يا أبا بكر! ممن يقال له هذا عند موته).

وفيه نزل قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:١٧ - ٢١].

قد يكون الإنفاق يسيراً، لكن الإنفاق في مواجهة المجتمع الجاهلي في بداية الدعوة يكون صعباً جداً، لا سيما وأنت في موقف الضعف، والجاهلية في موقف المنتصر، ويعتق عبداً من عباد الله بلال بن رباح لكي ينضم إلى معسكر الإيمان، الحالة حينئذٍ صعبة جداً.

قد تقول خطبة عصماء في مشهد جمعٍ غفير، ولكن قد تكون كلمة مكونة من سطرين أو من حرفين أبلغ وأعظم وأقوى وأقبل عند الله حينما تكون في موقفٍ فيه الخوف على الروح والنفس، والخوف على الرزق، أو في مواجهة إمامٍ جائر، ينبغي أن يعلم هذا جيداً.