للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقفان يتنبه فيهما الغافلون]

لقد استحكمت فينا الغفلة حتى فاتتنا غنائم كثيرة فلم نسخر هذه الغنائم في طاعة الله ونيل مرضاته، بهذه الغفلة -أيها الأحبة- فاتتنا غنائم الحياة فلم ننتبه إلا عند الموت، وفاتتنا غنيمة الصحة فلم ننتبه إلا عند المرض، وفاتتنا غنيمة الفراغ فلم ننتبه إلا عند الانشغال، وفاتتنا غنيمة الشباب فلم ننتبه إلا عند الهرم، وفاتتنا غنيمة الغنى فلم نفق إلا حال الفقر.

قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان.

ولذا يتفطن الغافلون إلى هذه الغفلات ولكن متى ينتبهون أنهم كانوا في غفلات، وكانوا في أمر مريج، وفي أمر عجيب في غفلتهم، في تضييع هذه الأمور مجتمعة؟ ينتبهون في موقفين: الموقف الأول: في ساعة الاحتضار يعلم الغافل أنه كان غافلاً، الغافل الذي ضيع وقته وشبابه وعافيته وفراغه وصحته متى يعلم أنه غافل؟ الغافل الذي كان يكابر ويعاند في هذه الغفلة متى ينتبه؟ عند ساعة الاحتضار، عند هجوم المنية، إذا بلغت المنية منه مبلغها: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] في هذه اللحظة يعلم أنه غافل ويستفيق ويصرخ: (رَبِّ ارْجِعُونِ) أريد العودة، أريد الرجعة (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) فيرد بكل زجر وتوبيخ (كَلَّا) لا مرد ولا رجعة، ما بعد هذا إلا حياة برزخية، مضى وفات وانقضى زمن العمل وأنت في زمن البرزخ، إما أن تكون في حسرة فتقول: رب لا تقم الساعة، وإما أن تكون فرحاً جذلان مما ترى من كرامات الله وفضله ومنه، وروح من الله وريحان فتقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة.

ينتبه الغافلون في ساعة الاحتضار فيقول أحدهم: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:١٠] ولم لم تتصدق يوم كنت تدعى إلى الصدقة وكنت غنياً؟ ولم لم تتصدق وأنت تدعى إلى أداء الزكاة والأموال تملأ حسابات البنوك بأرصدتها؟ ولم لم تتصدق وأموالك تئط أطيط الرحل من كثرة الأرصدة؟ ولم لم تتصدق وكنت قادراً على الصدقة من قليل أو من كثير؟ أما إذا جاء الموت: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠]، {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:١٠]

و

الجواب

{ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:١١] هذا هو الموقف الأول يتذكر فيه الغافلون أنهم في غفلة، في ساعة الاحتضار.

والموقف الثاني الذي يتذكر الغافلون أنهم في غفلة: هو موقف الآخرة: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:١٢] الصيف ضيعت اللبن! إنا موقنون الآن! موقنون الآن بعد أن قامت القيامة! موقنون الآن بعد أن تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم! موقنون الآن بعد أن جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة! لا ينفع اليقين حينئذٍ، كان اليقين نافعاً في حياة الدنيا، يوم أن كنتم تؤمرون وتنهون وأمامكم فرصة للعمل وفرصة للكسب والسعي في طاعة الله عز وجل، لذلك يتذكر الغافلون فيقولون: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:٣٧] هيهات هيهات انتهى زمن العمل وفات.

يقول أبو سليمان الداراني: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير طاعة الله لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟! كيف من يستقبل ما مضى من عمره من الغفلة يستقبل بقية العمر بمثل الغفلة السابقة؟!