للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اغتنام الحياة قبل الممات]

الأولى: (اغتنم حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك).

الحياة -أيها الأحبة- قصيرة فإن عاش الواحد في ملذة واجتماع شملٍ، وإن عاش في نعمةٍ، وإن عاش في مال، ربما مرت عليه الأيام والليالي سريعة، ومن عاش في زنزانة، أو في سجن، أو عاش في نكد وفي قلق، وفي ضيق عيشٍ وتنغيص من حاله، فربما مرت عليه الحياة بطيئة، والحقيقة أن اليوم والليلة أربعٌ وعشرون ساعة، تمر على الملوك كما تمر على الصعاليك، وتمر على الأثرياء كما تمر على الفقراء، ولكن بطبيعة الحال تمر أيام اللذة سريعة، وتمر أيام البلاء بطيئة، وقديماً قال الشاعر:

مرت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيام

ثم انثت أيام هجرٍ بعدها فكأنها من طولها أعوام

ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأننا وكأنهم أحلام

أيها الأحبة: الحياة سريعة الزوال، واسأل من عاش مائة عام، أو ستين عاماً، ومن بلغ الستين فقد أعذر كما روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد أعذر الله إلى امرئ بلغه الستين من عمره) من بلغ الستين فلا عذر له في التقصير ولا عذر له في التواني وليس هذا بحجة أن يضيع الواحد العمل ويقول: لم أبلغ الستين، فإن الواحد محاسبٌ بالتكليف فإذا بلغ العبد أصبح مكلفاً مخاطباً بالشريعة، وما يدري الواحد متى يموت:

فكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر

وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري

تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر

أيها الأحبة: الواجب أن الواحد ينتبه لهذه الحياة فهي تمر سريعة، وروي أن نوحاً عليه السلام قيل له: يا أطول الأنبياء عمراً! كيف وجدت الدنيا؟ وتعلمون أنه لبث في قومه: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:١٤] فقال: كداخلٍ من باب وخارجٍ من آخر، الدنيا مهما طالت فإنها قصيرة لأننا إذا نسبنا الدنيا إلى الآخرة وجدنا الدنيا متاعاً يسيراً قليلاً بالنسبة للآخرة، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:٦٤] {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:٣٨] فكل متاعٍ في الدنيا؛ سواءً كان صحةً أو غنى، أو شباباً، أو ثراء أو مالاً، أو عافية أو جناناً، أو زوجاتٍ حسان، أو ضيعاتٍ ومزارع، فهي ليست بشيء بالنسبة لما في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة كمثل ما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) تخيل -أخي الكريم- أنك وقفت على ساحل المحيط ثم جعلت أصبعاً من أصابعك في البحر، ثم أخرجتها من البحر مرةً أخرى إن القطرة التي تعلق بأنملك هي الدنيا، وأما الآخرة فهي البحر المتلاطم العظيم الكبير بكنوزه وأسراره، فمن ذا يبيع قطرةً بمحيط؟ من ذا يبيع يسيراً بشيءٍ كثير؟ سبحان الله العلي العظيم!! إن عقول كثيرٍ من العباد في غفلة، وإننا والله في غفلة، ولو كانت قلوبنا في تمام الحياة لما وجدتنا نصر على المعصية، نصبحها ونمسيها، ونقارفها ونرضى بها، ونداوم عليها، وربما جاملنا فيها.

أيها الأحبة: من عرف الآخرة عشقها وطلبها وأحيا ليله وأظمأ نهاره وجاهد نفسه وعصى هواه وعارض شيطانه، حتى تبلغ به المنية، وكما قال عبد الله بن الإمام أحمد وقد رأى ما فعل بأبيه، وقد رأى ما ثبت عليه أبوه من المجاهدة في الثبات على السنة قال: "يا أبت متى الراحة؟ فقال أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه: يا بني! الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة" فمن تأمل هذه المسألة أدرك أن الحياة غنيمة، كم عاش قبلنا من الملوك ومن الأثرياء ومن العظماء ومن الفقراء ومن الوضعاء والرفعاء، عاشوا وسكنوا القصور، ثم دفنوا في القبور، وتنوروا بأنواع الإنارة ثم انتهوا إلى ظلمة اللحود، وجلسوا على ألوان الحرير ثم نازعهم الدود أكفانهم، وعبث بنواعم أبدانهم.