للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اغتنام الصحة قبل السقم]

اغتنم خمساً قبل خمس، وذكر منها: (صحتك قبلك سقمك) أنت الآن معافى وأنت الآن قادر.

أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ فلا يدوم على الإحسان إمكان

ليس كل مرةٍ أنت قادرٌ على أن تفعل الخير، فما دمت اليوم قادراً على فعل الخير فافعله وبادر وأسرع واغتنم فربما غداً لا تستطيع، ما دمت اليوم قادراً على أن تبذل الفضل في مرضاة الله فعجل فربما تكون غداً عاجزاً عن ذلك، اليوم الناس يحتاجون إليك، وغداً أنت تحتاج إلى الناس، اليوم أنت تخدم غيرك وغداً قد تسقط صحتك وتقف قواك فتبحث عمن يعينك.

ولقد رأينا وزرنا وجالسنا أناساً كم كان لهم في الحياة من صولات وجولات، وكان لهم مواقف شهدت لهم الأرض وشهدت عليهم، ولو نطقت جوارحهم لتكلمت بما فعلوا، كانوا بالأمس يبطشون، وبألسنتهم يتكلمون، وبأقدامهم يمشون، وربما إلى حرامٍ أو مشبوهٍ يسعون، فنالهم من أمر الله ما نالهم، كان الواحد منهم يقضي حاجته بنفسه والآن على سرير المرض إن لم تأت ممرضة ثم تعطيه في دبره ما يخرج الغائط من جوفه وإلا ما استطاع، كان بالأمس يقضي حاجته بنفسه واليوم تُقضى حاجته ويُعان على قضاء حاجته، كان بالأمس يحتاج الناس إليه واليوم احتاج إلى الناس، كان بالأمس يتحرك حيثما أراد واليوم لا يتحرك إلا بمن يدفعه بعربيته إلى المكان الذي يريد، كان بالأمس يقرأ ما يشاء واليوم يُقرأ عليه فقد فَقَدَ بصره، كان بالأمس يسمع كل كلام واليوم احتاج إلى الإشارة لأن نعمة السمع فاتته في أمرٍ من الأمور.

إذاً الصحة عارية وربما تذهب الصحة بمرضٍ أو بسقمٍ أو بموتٍ أو ببلاء، ولأجل ذلك فإن من نعمة الله عليكم -يا معاشر أمة محمد- أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً) هذه بركة الطاعة، وهذه بركة المجاهدة، وهذه بركة مجاهدة الله في الشباب؛ إذا كنت في شبابك مطيعاً فقعد بك الهرم والشيخوخة عن النوافل وأنت على فراش مرضك كتبت لك حسناتك وصيامك وقيامك، إذا كنت في إقامتك وحلك مجتهداً في الطاعة، فإنه يكتب لك في سفرك ما كنت تفعله كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً).

العمر جميلٌ بطاعة الله وفي غير طاعة الله نقمةٌ على صاحبه، العمر لذيذ في مرضاة الله، ومن كان معمراً على معصية، أو معمراً على فساد أو فاحشة، فمثل ذلك حياته وبال عليه ولو مات لكان خيراً له: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:٤].

قيل للأعشى ميمون بن قيس وقد جاوز مائة سنة: يا أعشى! كيف وجدت الحياة؟ فقال:

المرء يرغب في الحياة وطول عيشٍ قد يضره

تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره

وتسوءه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره

كم شامتٍ بي إذ هلكت وقائلٍ لله دره

أيها الحبيب: إذا علمت هذا فاسأل الله ربك أن يجعل حياتك في طاعته، وفي الحديث: (إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً استعمله!! قيل: وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه إلى عملٍ صالح ثم يتوفاه عليه) هكذا يستعمل الإنسان في طاعة الله، وكم سمعت مراراً من سماحة المربي العالم المفتي سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز وهو يدعو ويردد ويقول: اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم استعملنا في طاعتك.

فيا أيها الأحبة: العاقل يسأل الله أن يكون عمره في طاعة الله، إن كنت بلغت العشرين فقل: اللهم اجعل ما مضى خالصاً لوجهك في طاعتك، وأسألك أن تعينني وأن تثبتني على ما بقي؛ لأنك -أيها المسكين- لا تدري فأنت في زمن الفتن، يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل، فعمرك نعمة، وما أسعد حال أولئك الذين شابت لحاهم في الإسلام! ولأجل ذلك في الحديث: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) رجل كبير طاعن في السن لحيته بيضاء قد اشتعل الرأس منه شيباً، إن إكرامك له وإجلالك له من تعظيم الله سبحانه، لماذا؟ لأنه مكث ستين عاماً على التوحيد، أو سبعين عاماً على التوحيد، أو ثمانين عاماً على التوحيد، وأنت يا مسكين يا شاباً قد أعجبتك خطابتك أو محاضراتك، أو يا شاباً قيل لك: أنت ملتزم، أو أشير إليك بالبنان، أو قيل من الصالحين ما تدري ماذا يختم لك به، وكم من أناسٍ كانوا شباباً على الطاعة فتهاونوا أو غيروا أو تساهلوا فانقلبت طاعاتهم إلى معاصٍ، وختم لهم بسوء الخاتمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لأجل ذلك فإن الحياة على طاعة الله نعمةٌ عظيمة، أما الحياة على المعصية؛ أو على أحوالٍ يبعد فيها المرء عن مرضاة الله، ذلك بابٌ من الحرمان والخذلان.