للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[علاج قسوة القلب]

السؤال

فضيلة الشيخ! ما هو علاج القلب القاسي؟

الجواب

الله جل وعلا قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤] وقسوة القلوب إنما تكون بكثرة المعاصي والرضا بها، نحن لا نتصور أن بشراً لا يعصي أبداً، قد تحصل المعصية؛ ولكن إياك أن تجعل المعصية تتراكم وتتضاعف، يعني: حصلت اليوم معصية أتبعها بصدقة، أتبعها بمائة تسبيحة وتكبيرة وتهليلة، اجلس في المسجد ساعة وساعتين، اجعل رأسك بين رجليك وأطرق برأسك واستغفر واندم وتفكر، واسأل الله أن يسلمك من شؤم هذا الذنب، وأن لا يؤاخذك به، وأكثر من التوبة والاستغفار.

ولكن هنا مسألة تعينك على علاج قسوة القلب: فأولها: مجاهدة النفس، بمعنى: قد يكون الإنسان قلبه أقسى من الحجر، لكن إذا كنت تريد أن تلين قلبك فجاهد نفسك على الجلوس في حلق الذكر؛ لأن حلق الذكر تزول عنها الشياطين، لماذا يبقى قلبك قاسياً؟ لقرب الشيطان منك، فلا بد أن توجد في بيئة ومحضن ليس فيه شيطان، المساجد لا تدخلها الشياطين، ذكر الله والاستغفار والتسبيح والتهليل يجعل الشيطان بعيداً عنك، فأكثر من حلق الذكر وجلوسها، وأكثر من زيارة المرضى وعيادتهم.

وإن تيسر لك أن تشهد رجلاً يعاني سكرات الموت فقف عند رأسه وانظر كيف تبرد أطرافه، وتجذب الروح من ساقيه، ثم تنتفض ركبتاه، ثم يهتز فخذه، ثم تقرقر الروح في جوفه، ثم تسمع لها حشرجة في صدره، ثم تخرج من نحره، وترى بصره يتبع روحه حيث خرجت.

هذه مشاهد تؤثر على الإنسان، إذا أراد أن يمشي إلى معصية وتذكر صورة ذلك الذي يحتضر ويموت وتذكر حاله ونفسه.

أيضاً تغسيل الموتى فيه عبرة وفيه عظة، تجد الرجل الذي كان طويل اللسان قد عض على لسانه من شدة آلام الموت وسكراته، تجد الرجل الذي كان يبطش بيده تترك يده هكذا فتسقط، وتترك يده الأخرى هكذا فتسقط، تجد الرجل التي مشت وسارت الأميال والفيافي والقفار هامدة لا حراك بها، تجد الذي له صولة وجولة الآن يقلبه الغاسل يمنة ويسرة لكي يجعل الحنوط في مغابنه ونحوها.

ثم أيضاً عليك بزيارة المقابر، وشارك في دفن الموتى، وكن مع الذين يضعون الميت في لحده، لترى كيف أنت تحمل رأس الميت ثم يسقط رأسه من يدك في الحفرة، حينما أنت تضع يدك تحت رأس الميت لتدفنه، ثم آخر الوداع أن تسحب يدك من عند رأسه ويبرد رأسه، ويرتطم قليلاً في الأرض ولا يئن ولا يصيح والشاش على وجهه، ثم تحل الأربطة منه، ثم تأتي باللبن وتصفها واحدة واحدة، حينئذٍ تتذكر، عجيب! هذا فلان بن فلان الذي ما كنا ندخل عليه إلا باستئذان، ولا نقابله إلى بحجز مواعيد، ولا ندخل عليه إلا بسكرتير وطريقة سكرتير، الآن يوضع في القبر، ويوضع التراب عليه، ثم توضع اللبن والتراب عليه، ثم نخرج من المقبرة ونتركه لوحده، كان يمشي وعنده خدامه وحشمه وموظفوه، وعنده من عنده، الآن يترك لحاله في المقبرة؟ ثم ماذا بعد ذلك؟ قد تأتي ذات يوم إلى قبره تعوده فيهولك المنظر أن ترى كلباً من كلاب المقبرة قد ربض على قبر فلان بن فلان.

الله أكبر! فلان الذي لا يستطيع أحد أن يجلس عنده إلا باستئذان ومقدمات وحجز، تجد كلباً من الكلاب يربض على قبره؟! هذه نهاية الدنيا، هذه نهاية الدنيا يا إخوان، الذي يتعلق بها يتعلق بسراب بلقع، لا نتيجة لهذه الدنيا، العصير والماء الذي نشربه يخرج بولاً نجساً يضايقنا لو بقي في أجوافنا، الطعام الجميل الذي نأكله يخرج من بطوننا عذرة وغائطاً لو احتبس في بطوننا لذهبنا إلى المستشفى ونقول: شقوا بطوننا وأخرجوا الطعام الذي أكلناه.

أي ضعفٍ في دنياك وفي حالك يا مسكين أنَّ ما تشتهيه تفارقه؟ الذي تشتهيه على أطيب حال يخرج منك على أخبث حال وأنجس حال، وجعلت مفاتن الدنيا في مناتنها، ولأجل ذلك ملذات الدنيا رخيصة أما الملذات العظيمة هي طاعة الله ولذلك قال أحد السلف: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، يعني: مع الداخلين الأول، أي: جنة العبادة وجنة الخضوع، وجنة التوبة، وجنة مواجهة النفس بالصراحة.

افرض أنك الآن ضابط تحقق، أو تحقق مع خادم من عمالك، أو مع واحد من أولادك، تقول: لا تلف ولا تدور، أنا أعطيك الحقيقة اعترف، أنا أريدك -يا أخي- أن تقف أمام المرآة وتقول لنفسك، وتؤشر بيدك إلى يدك، وتضع عينك في عينك، ووجهك أمام وجهك وتقول: يا فلان! لا تلف ولا تدور، هل أنت على حالٍ ترضي الله أم لا؟ هل لو مت الآن تموت على حالٍ تسرك أم لا؟ هل أنت راضٍ عما تفعل؟ هل نهايتك هذه لو مت عليها نهاية سعيدة أم سيئة؟ يا أخي الحبيب: صارح نفسك، إلى متى العبث؟ إلى متى الخداع؟ الواحد منا لو يصب بنزيناً ثم يخدعه موظف محطة البنزين، صب بواحد وعشرين ريالاً وقال: هات خمسة وعشرين، تلتفت إليه وتقول: ماذا يا مجرم؟ أنت تخدعني؟ لك واحد وعشرين وتطلب خمسة وعشرين؟ نعم.

لا نرضى أن يخدعنا أحد في ريال أو ربع ريال، لكنا نخدع أنفسنا، الواحد منا معاصيه أدرى بها وأعلم بها، لو كل واحد يسأل عن ذنوبه، وأنا أسأل الآن وكل يجاوب نفسه في نفسه، ما هي ذنوبك؟ تقول: والله إني أعرف ذنوبي، ولأجل ذلك ليس من منهج أهل السنة والجماعة أن يمدح الإنسان بين الناس؛ لأنك أدرى بضعفك ونقصك وتقصيرك، ما هي ذنوبنا يا إخوان؟ كل واحد يعرف الذنب كما يرى هذه النجفة وهذه الثريا أو هذا الكرستال، أنت تعرف ذنبك جيداً، وإن مدحك الناس فأنت أدرى بأحوالك.

صارح نفسك، ولماذا لا تتوب؟ هل أنت ليست بكفء للتوبة؟ قد تاب من هو أفجر منك، فحفظ القرآن وأصبح إماماً ومؤذنا، قد تاب من هو شر منك فجاهد في سبيل الله ومات شهيداً بإذن الله، قد تاب من هو أسوأ منك فطلب العلم وأصبح معلماً وأستاذاً، لماذا لا تتوب؟ هل أنت بهيمة من البهائم عجماء لا تفقه الخطاب، ولا تدرك الخطأ من الصواب؟ حاشاك أخي الكريم، إذاً لماذا لا تتوب؟ هل كتب للناس أن ينالوا منازل الشرف والرفعة وكتب لك أن تكون مع العصاة في منازل الهوان والذلة؟ لماذا لا تتوب؟ لماذا لا تراجع نفسك؟ اسأل نفسك، وتب من هذه اليللة وارجع إلى الله، وكن مسلماً، إذا كنت موجوداً ظهر نفعك بالعبادة والدعوة، وإذا غبت ذكرت بصلاح عملك.