للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل ذكر الله جل وعلا]

قال ربنا جل وعلا: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:٢١] والخيرات كثيرة، ولكن حسبنا أن نركز جل وقتنا هذا على عبادة جليلة، بجارحة صغيرة لتحقيق وتحصيل حسناتٍ كثيرة، ألا وهي: ذكر الله، قال عز وجل: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:٤٥].

والذكر شأنه عظيم، وإني أسألكم الآن: هل يستطيع أحدكم أن يحرك يديه ورجليه بقدر ما يحرك لسانه؟! إنك لا تستطيع، بل لا يمكن أن تحرك جفن عينك على خفت وزنه وقربه فضلاً عن تحريك يدك أو قدمك بقدر ما تحرك لسانك، فهذا اللسان يمكن تحريكه بأيسر وسيلة وطريقة لتحصيل عبادة جليلة ثوابها كثير وخيرها وفيرٌ بإذن الله، ولكن من الناس من لديه استعداد أن يهجر ويلغو ويثرثر ويتكلم ويهرف بما لا يعرف، ويهذي بما لا يدري ليقول ما يضر ولا ينفع، الليل والنهار، وإذا قيل له: قل لا إله إلا الله {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:٤٥] فيا عجباً كيف يطيب لهذه الألسنة أن تتكلم الساعات الطوال في الغيبة والنميمة، وفي القيل والقال، والغادين والرائحين، والذين أعطوا والذين حرموا، والذين أخذوا والذين منعوا، ثم يكل عليها أن تتكلم بذكر الله الذي هو شفاء الأبدان ودواء القلوب، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨].

أيها الأحبة السلامى هي المفاصل، فهذه الأنملة كل مفصلٍ فيها يسمى سلامى، فكم في بدنك منها؟ إنها كثيرةٌ جداً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن علينا لله في كل سلامى من أبداننا صدقة) حيث قال في الحديث الذي يرويه أبو ذر: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما العبد من الضحى).

أولاً: هذا الحديث رواه الإمام مسلم فهو حديث صحيح، ومفاده: أن علينا لنعم الله علينا واجب الشكر وأداء النعم وإن كنا لا نستطيع حصرها ولا شكرها،

إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الآماد واتصل الدهر

إذا عم بالسراء أعقب مثلها وإن عم بالضراء أعقبها الأجر

إذا كان مجرد هذا المفصل الذي يتحرك في الأنامل لله عليك فيه صدقة؛ بتسبيحة، أو بتهليلة، أو بتكبيرة، أو بأمر بالمعروف، أو بنهيٍ عن المنكر، أو إغاثة ملهوف، أو مساعدة محتاج، أو ابتسامة في وجه مسلم، أو ما شئت من وجوه الصدقات، فما بالك بما لله علينا من الصدقات الواجبات في أبصارنا؟! ماذا أحدثك عن عينك، ماذا أحدثك عن هذه الماسحات التي كلما علق الغبار على هذه الزجاجة أو هذا الغشاء الرقيق تحركت حركة أنت لا تدركها برطوبة لكي تغسل العين، وماذا أحدثك عن القَرَنِية وعن الشبكية وعن عصب العين؟! وماذا أحدثك عن جارحة الشم أو جارحة السمع أو جارحة الهضم أو جارحة التنفس أو جوارح كثيرة؟ إذا كانت السلامى -المفصل- لله عليك فيه صدقة، فكم من صدقة لله عليك في سمعك، وكم لله عليك من صدقة في بصرك، وكم لله عليك من صدقة في يدك وفي قدمك وفي جوفك وفي الكلى.

خذ على سبيل المثال واسألوا إخواننا الذين يرقد الواحد منهم في كل أسبوعٍ أربع مرات على السرير أو في غرفة الغسيل الكلوي لكي يغسل الدم، إن جلوس هذا المريض في وحدة الكلى ست ساعات كاملة من أجل تنقية الدم إن هذه العملية ليست كما قرر الحذاق من الأطباء إلا عشرة في المائة من الوظائف التي تؤديها الكلية، فما بالك بتسعين في المائة من الوظائف؟ أليس لهذه الكلى من حقوق الله علينا في شكرها الشيء الكثير؟ فحدث ولا حرج عن كل عرقٍ ساكن لو تحرك لما وجدت للحياة طعماً ولا لذة، وحدث ولا حرج عن كل عرقٍ متحركٍ لو سكن لما وجدت للحياة طعماً ولا لذة، ناهيك عن هذه الجوارح وهذه الحواس العظيمة.

ثم إنا لنعجب أيضاً من هذا الحديث، وفيه دلالة على أن هذا الدين لم يجعل طريق الخير واحداً لا يحسنه إلا فئة أو شريحة أو طبقة من الناس، فإن الله عز وجل لما أوجب علينا الصدقات في شكر هذه النعم التي لا نحصيها فضلاً عن القيام بشكرها وحق الله علينا فيها، إن الله عز وجل لم يجعل كل الخير في بابٍ واحد، بل جعل الخير في أبوابٍ شتى، بل جعل الخير في مذاهب شتى حتى يستطيع كل عبدٍ أن يذهب كل مذهب وأن يأتي بكل خير في وسعه وقدرته واستطاعته ليحقق لله شكراً في نعم الله عليه، فتسبيح صدقة، وتحميد صدقة، وتهليل صدقة، وتكبيرٌ صدقة، واحتسابٌ صدقة، ودعوة صدقة، وإماطة الأذى صدقة، وإعانة المسكين صدقة، وحمل متاع الرجل معه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، والابتسامة صدقة، بل وحتى إتيان العبد شهوته في حلالٍ صدقة، قال الصحابة لما قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة! قالوا: يا رسول الله! يأتي أحدنا شهوته ثم يكون له بذلك أجر؟ قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم.

قال: فكذلك لما وضعها في حلالٍ كان له بها أجر).

إذاً -أيها الأحبة! - لم يعجز أحدٌ أن يأتي بخير، لا أظن أن أحداً يعجز عن ابتسامة، أو عن كلمة طيبة، أو عن إفشاء السلام، أو إطعام الطعام، أو التسبيح والتهليل والذكر.