للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الموقف الأرشد تجاه العمر]

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعنيه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إني لأقف في هذا المقام خجلاً بين أيديكم مع أن في القوم من هو أمثل وأخير وأعلم مني، ولكن المحبة في الله جمعت بيننا في هذا المكان، بين متكلم وسامع، ومستفيد ومتذكر، لعل الله عز وجل أن يجعل هذا الكلام عوناً لنا على طاعته، وحجة لنا لا علينا بمنّه وكرمه.

أيها الأحبة: الحديث اليوم عن الماضي وعن المستقبل، وله مناسبة وهي أننا قبل أيام ودعنا عاماً كاملاً بأشهره ولياليه وساعاته، وما مر فيه شاهد لنا أو علينا، كلما أُحدث في هذا العام على وجه الأرض، وفي كل مكان من هذه الدنيا، فإنه في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى.

أيها الأحبة الماضي والمستقبل هو العصر والليل والنهار، الماضي والمستقبل هو الضحى والصباح والمساء، هو الأيام والشهور والسنون والأعوام: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:١] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:١ - ٢] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:١] {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:١٧] {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة:٣٦] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠].

هذا هو الماضي، وهذا هو الحاضر، وهذا هو المستقبل، لا نتحدث عن كوكب غريب، ولا عن عالم عجيب، إنما هي أيامنا وساعاتنا التي تمر على أعمارنا، لتقضى فيها مقاديرنا وآجالنا وأعمالنا، وإن أقواماً لا يدركون قيمة الحاضر، ولأجل ذا لا يأسفون على ما مضى، ولا يستعدون لما بقي، لقد اشتغل أقوام بالحسرات على ما مضى، تحسروا دون أن يحدثوا توبة وندماً واستغفاراً ورجوعاً إلى الله عز وجل، وإن أقواماً يخافون من المستقبل دون أن يستعدوا لهذا المستقبل.

إن الحزن على الماضي والخوف على المستقبل ما لم يكن لأجل الإعداد والاستعداد بالعمل الصالح فهو ضرب من الوسوسة، وهو ضرب من الأمراض النفسية؛ لأن الذين يخافون من المستقبل، ويحزنون على الماضي، إما أن يكون حزنهم وخوفهم مملوءاً عبقاً، باستعدادٍ لهذا المستقبل بالعمل الصالح، وندماً على ما فرطوا في جنب الله عز وجل، وحرصاً على أن يجعلوا مكان السيئة حسنات، وحرصاً على أن يجعلوا هذه الحسنات ماحية للسيئات، فأولئك حزنهم على ما مضى محمود، وخوفهم على المستقبل ممدوح.

أما الذين يحزنون ويخافون من غير إعداد ولا استعداد، فذاك ضرب من الوسوسة والجنون.

ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كلام جميل معناه يدور حول ما نملكه للماضي وللمستقبل، قال في الفوائد: هلمّ إلى الدخول على الله، هلمّ إلى مجاورة رب العباد في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء، بل من أقرب الطرق وأسهلها، وذلك أنك في وقت بين وقتين، وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر، بين ما مضى وبين المستقبل.

فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة، إنما هو عمل قلب، وتمتنع فيما تستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة، وليس هذا الامتناع عملاً بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك، فالذي مضى تصلحه بالتوبة، وما تستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح فيما مضى، ولا للمستقبل نصب ولا تعب، ولكن الشأن كل الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين، بين الماضي وبين المستقبل.