للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المسارعة في الخيرات قبل فوات الأوان]

أيها الأحبة: إن ما بقي من أعمارنا فيه خير كثير بإذن الله، إن أحسنا النية، وصدقنا العزيمة في طاعة الله عز وجل، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الواحد منا أن يتمنى الموت لضر نزل به، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، إنه إن مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) رواه مسلم، وقوله: (وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) قال في هذا ابن حجر: وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت أو الدعاء بالموت؛ لأن فيه انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة سبب العمل، والعمل يحصّل به العبد زيادة الثواب، ولو لم يكن فيما بقي من العمر إلا زيادة التوحيد، فهو أفضل الأعمال.

ولنستمع لوصية محمد بن يوسف حيث قال: إن استطعت ألا يكون شيء أهم إليك من ساعتك فافعل، فاغتنم هذا العمر قبل فراق الحياة، واغتنم هذا العمر قبل فراق العافية، واغتنم هذا العمر قبل فراق الأمن.

يا رافلاً في الشباب الرحب منتشياً من كأسه هل أصاب الرشد نشوان

لا تغترر بشبابٍ رائقٍ نضرٍ فكم تقدم قبل الشيب شبَّان

ويا أخا الشيب لو ناصحت نفسك لم يكن لمثلك في اللذات إمعان

هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما عذر أشيب يستهويه شيطان

كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من الذي يصلي عنك بعد موتك؟! من الذين يصوم عنك بعد موتك؟! من الذي يرضي ربك بعد موتك؟! ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم بقية حياتكم، ويا من الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله؟! وأما الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، فقد قام عند الكعبة ذات يوم، فقال: يا أيها الناس! أنا جندب الغفاري -هلمّ إلى الأخ الناصح الشفيق- فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحداً أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه، قالوا: بلى، قال: فسفر يوم القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا منه ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديداً حره لطول يوم النشور.

وهنا أقول لإخواني: صوموا يوم تاسوعاء ويوم عاشوراء، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، واغتنموا الأجر، فإن فيه من تكفير الذنوب ما الله به عليم.

قالوا لـ أبي ذر: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديداً حره لطول يوم النشور، صلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، أو كلمة سوء تسكت عنها لموقف يوم عظيم، تصدق بمالك لعلك تنجو من غيرها، اجعل الدنيا مجلسين، مجلس في طلب الآخرة، ومجلس في طلب الحلال، والثالث يضرك ولا ينفعك فلا ترده، اجعل المال درهمين، درهم تنفقه على عيالك من حله، ودرهم تقدمه لآخرتك، والثالث يضرك ولا ينفعك فتجنبه.

ثم نادى بأعلى صوته، يا أيها الناس! قد قتلكم حرص لا تدركونه أبداً، وإننا لنقول لكل من فتح الله عليه بشيء من المال: لماذا تسوف بالإنفاق والبذل والصدقات؟ فتقول: إذا مت فأخرجوا من تركتي، وافعلوا بها كذا وكذا.

نعم إن الوصية فيها خير ونفع، والوقف على أمور الخير فيه خير، ولكن من الخير -أيضا- أن تعجّل بما تحرص على بذله وفعله، ما الذي يضيرك لو أن المسجد الذي أوصيت ببنائه من تركتك بعد موتك أن يبنى الآن وأنت حي، فتصلي فيه وتتابعه وتعتني به؟ ما الذي يضيرك أن الدعاة الذين أوصيت أن يكفلوا من تركتك بعد موتك أن تكفلهم وأنت حي؟ ما الذي يضيرك أن الغزاة الذين يجهزون بوصيتك من تركتك بعد موتك أن يجهزوا وأنت حي؟ ما الذي يضيرك في هذه الكتب التي أوصيت أن تطبع من تركتك بعد موتك أن تطبع وأنت حي؟ إذا كان عندك مصنع، وتملك أن تجعله يشتغل من الآن، وينتج من الآن، فلماذا تؤخر الإنتاج إلى ما بعد الموت؟ إن كل من صلى واعتكف في مسجد أنت تبنيه، أو استفاد من داعية أنت كفلته، فلك أجره إلى أن تلقى الله عز وجل، فلماذا تسوف؟ وتقول: إذا أنا مت فافعلوا كذا وكذا؟