للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خطر قرناء السوء]

جاء إلي شاب -والله- ما لبث دقائق حتى أخذ يبكي، قلت: ماذا فيك يا فلان؟ قال: والله أنا أذنبت وأسرفت وفعلت وتعرف ما هو؟ قال: أنا أشعر بعقدة الذنب، أنا أشعر أنني حينما أخطئ أعرف أنني أخطأت، أنا ما أرتكب معصية وأقول: إني صليت، أو أفعل فاحشة وأقول: إني تصدقت، وأعرف أن للفاحشة شؤماً، وأن للمعصية عاقبة وخيمة، ولكن عندي مجموعة أصدقاء يقولون لي: يا أبا فلان! لا يهمك، نحن نتوسط لك وسنقف معك، ولا نتركك أبداً.

قلت: يا أخي الحبيب! هذا كلامٌ لا ينفع، ولكن افرض أن أصدقاءك كانوا صادقين جادين فيما يقولون، أنك إذا وقعت في ورطة خلصوك منها، هل يستطيع إخوانك إذا حملت على النعش أن ينزلوك من النعش وتمشي على قدميك؟! هل يستطيع زملاؤك إذا جاءت الملائكة لتقبض روحك أن يدفعوا الملائكة عنك بواسطة؟! هل يستطيع زملاؤك إذا جاء أقرباؤك وأدخلوك القبر ثم أدخلوك ظلمة اللحد، وضرب رأسك على الأرض؟! أحد الإخوان في البارحة قال: كنا في مسجد الشيخ ابن قعود قال: وإذ بي أجد شاباً شعره ما شاء الله، مسرف على نفسه -أسأل الله لنا وله الهداية- أجده متأثراً ويستغفر ويقرأ القرآن، يقول: فرأيت فيه علامات الانكسار وظاهره الانحراف، فسلمت عليه، فقال: يا (مطوع)! تعرف تدفن ميتاً؟ قلت: خيراً إن شاء الله، نصلي وبعد ذلك ندفنه، قال: فصلينا ثم صلينا على الجنازة، وكل واحد منكم سيُصَلَّى عليه، وسوف تُخْلَعُ ثيابه، ويُصَبُّ الماء على بدنه، وأنا أولكم وسوف أُغسَّل وتُغسَّلُون، وأُكفَّن وتُكفَّنُون، ونُحمل على النعش وتُحْمَلُون، وندخل في ظلمة اللحد وتدخلون، وسوف نُسْأَل وتُسْأَلون، وسوف يغلق اللِبنَ -ويمكن أن لبنةً تنزلق على وجهك في القبر- وسوف يغلق اللبن علينا ويغلق عليكم، وحينئذٍ لا تجد بصيص نور ولا شمعة أو نصف شمعة أو ربع شمعة في اللحد، هذه الفلل الفسيحة التي تتمشى فيها وتتعب من المشي، أين تتمشى في اللحد؟! لا تستطيع أن تحرك كتفك هكذا ولا هكذا، هذه قضية ضعوها بين أعينكم، وهذا المصير سوف يجمع كل الناس، الملوك الأمراء الوزراء الأثرياء الأغنياء الفقراء كلهم سيدخلون المقابر، كلهم سوف يوضع اللبن على رءوسهم، كلهم سوف يدخلون ظلمة اللحود، كلهم سوف يلبسون الشاش الأبيض وتنزع منهم الملابس وكل ما تحلو به في الدنيا.

تذكروا هذا جيداً يقول صاحبنا: فلما صلينا على الجنازة وذهبنا إلى المقبرة ثم نزلنا، وهؤلاء لا يعرفوا كيف يقبرون؟ وهذا صديقٌ له وربما من أهله كذلك.

أحياناً -يا إخوان- تعجب! والله رأيت بعيني جنازة ويتبعها ثلاثة أو اثنين فقط، سنة اتباع الجنائز مضيعة، الناس لا تتبع إلا جنازة من تعرف، وإذا جاء الناس دخلوا المقابر يتفاخرون، وأعجب ما ضحكت له -وشر البلية ما يضحك- قبل مدة كنا في المقبرة وإذ بي أجد شخصاً قاعداً يوزع على الناس قوارير ماء بارد، جزاكم الله خيراً يوزع على الناس ماءً بارداً، أيها الحبيب! اجعلهم يذوقون العطش قليلاً، أنت الآن توزع على الموجودين الذين دفنوا الميت ماءً بارداً، لكن هذا الميت الذي نشف ريقه، والتراب انهال على رأسه، من الذي يعطيه قارورة ماء؟ القضية صعبة صعبة جدا، ً ولكن الناس في غفلة، والغافلون من المصرين على الهلاك، الذين يستمرون ويصرون على الغفلة هم من المصرين على الهلاك.

قال صاحبنا: فنزلنا وأخذنا الشاب الذي نريد أن ندفنه، ونزلت في القبر ومعي صاحبي قال: فلما جئنا ننزله هكذا تعرفون الإنسان عندما يقف على شفير اللحد، أنت حينما تضع الميت ربما تضع رجلاً في اللحد ورجلاً فوق اللحد أو رجليك فوق اللحد وأنت تنحني لتضع الميت في القبر، قال: فلما وضعته هكذا سألت نفسي، قلت: ماذا ينفعه الآن؟ هل ينفعه أنه فلان بن فلان آل فلان؟! هل ينفعه أنه فلان بن فلان من قبيلة كذا أو من قبيلة كذا أو من نسب كذا؟! هل ينفعه أن أباه كان صاحب ملايين؟! هل ينفعه أن عنده شهادة ترجمة؟! هل ينفعه أن عنده وعنده؟! والله لا ينفعه إلا عمله الصالح: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٩].

يقول صلى الله عليه وسلم: (يموت ابن آدم ويتبعه ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع ماله وولده ويبقى عمله) ثم إذا وضعوك في اللحد وأغلقوا اللحد باللِبن وأهالوا التراب، ثم بعد ذلك ذهبوا وتركوك، أيها الناس! في فصل الشتاء لا أحد يعطينا بطانية، درجة البرودة في الأرض عالية لا يوجد شيء ينفع، عندك عمل صالح يدفئك في البرد، أيها الناس! درجة الحرارة خمسين، وباطن الأرض ملتهب بالحرارة لا أحد يعطينا (مكيفاً) لا أحد يعطينا ماء لا أحد يرش على القبر ماء حتى يصلنا أيها الناس! كلبٌ من الكلاب يتبول على القبر لا أحد يبعد الكلب عن القبر! أنا فلان بن فلان ما يدخل علي أحد إلا بعد أن يستأذن من السكرتير، الآن الكلب بن الكلب يدخل ويبول على القبر ولا أحد يرده عن القبر؟! أيها الحبيب! هذا مصير الدنيا.

افتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جلل

آخر الشراب بول نجس، وآخر الطعام خراءة وعذرة، وآخر الجمال دودٌ وضعف، وآخر التفتح ذبولٌُ ونهاية.

إن الذين يتأملون حقيقة الدنيا وما تئول إليه يزهدون فيها حتى لو اجتمعت بين أيديهم، نسأل الله أن يبصرنا بحقيقة هذه الدنيا: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:٣٣].