للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النظر للمعوقين بنظرة الاستخفاف والعجز ونتائج ذلك]

ينبغي أن ننظر إلى أولئك المعوقين نظرة الثقة، ونظرة الجدارة، ونظرة المسئولية، ونظرة الكفاءة بأنهم ليسوا من العاجزين، أو المخلفين، وكثيرٌ منهم يسرف في عبارات الخضوع والرحمة والانكسار إلى حد يجعل المعوق يضيق من نفسه، أحدهم يقول: والله لا يؤذيني معوقٌ من المعوقين، يقول: والله لا يؤذيني إلا مبالغة كثيرٍ من الناس في هذا الانكسار، وفي تلك العبارات التي يظنون أنهم بها يترحمون، وما علموا أنهم بها يكسرون الجدارة والقوة والكفاءة، نعم.

نحن ننظر والله لهم بعين نسأل الله معها أن يعينهم، وأن يرفع إعاقتهم، وننظر لهم -أيضاً- بأنهم عليهم نصيبٌ من مسئوليات مجتمعهم، ولا أقول إن كل المعوقين من الذين وقعوا في هذه الحال، بل منهم رجالٌ عرفناهم يعولون أسراً عديدة، ولهم أدوار بارزة بناءة في مجتمعاتهم.

لكن المصيبة في هذه الأيام مصيبة طائفة من الشباب المعوقين يشكون هذه الحالة، وهذه النظرة، وهذا الموقف الاجتماعي منهم، ما هي النتيجة؟ ما هي النتائج التي ظهرت من خلال هذا الموقف الاجتماعي من نظرتنا إلى المعوقين؟ لقد انعزل طائفة من المعوقين، والتف بعضهم حول بعض، وماذا تظنون -أيها الأحبة- أن تملأ اجتماعاتهم به؟ يقول صاحبنا هذا: والله إننا لنجلس، وقد يكون صاحب المنزل، أو المعوق الذي يضيفهم يدق نوعاً من الحبوب، فيمزجه بالشاي، فنشربه حتى يطرب، أو يتخدر طائفةٌ منهم، فقد وقعوا في المخدرات.

ومن خلال رسالته، ومقابلتي له شخصياً، واطلاعي على هذا الأمر، علمت أن صديقاً له من المعوقين نظر إلى مجتمعه نظرة البعد، ونظرة اليأس والقنوط من أن يفتح له المجتمع دوراً، أو مجالاً بارزاً بناءً، فآثر العزلة، ووقع في طلق المخدرات ومصيبتها، فأخذ يتناول حبوباً بيضاء، وما هي إلا مدةً يسيرةً حتى أدمنها جسمه، فتناول حبوباً حمراء حتى أدمنها جسمه، ثم أصبح يتناول أنواعاً من الحشيش وغيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما هي النهاية؟ لقد مات على هذه الحالة، مات وهو معوقٌ على هذه الحالة، وكثيرٌ من زملائه وأصدقائه لا يزالون يعانون من هذه المشكلة، يقسم بالله العلي العظيم، يخرج لي عصاه وعكازه الذي يتوكأ عليه، يقول: أرأيت هذا العكاز، والله إن من خلاله لتدخل مئات الحبات من المخدرات، وتدخل سجائر الحشيش، وتدخل أمور محرمة ممنوعة، وقد ينظر إلى هذا المعوق نظرةً بالغةً في الشفقة والرحمة، فيمر، ولا يقع في أيدي رجال الأمن، ولا ينتبه لما يوجد في عكازه، لست هنا أدعو إلى التشديد وسوء الظن بالمعوقين وتفتيش عكازاتهم.

ولكن أقول: اعلموا أن الالتفات عنهم، وعدم إعطائهم مكانتهم ومنزلتهم المناسبة في المجتمع جعلتهم يبحثون عن أمور أخرى حتى وقعوا في جحيم المخدرات، وما أدراك ما يقع بين بعض الشباب من المعوقين، ولا أعمهم، لأني أعرف منهم طائفةً من الصالحين، وطلبة العلم، والرجال الأكفاء، لقد اجتمع كثيرٌ منهم على مثل هذه المجالس مع ترك الصلاة والسباب والشتيمة، والجلوس على أفلام خليعة لمشاهدتها، وكثيرٌ ينظر إليهم بعين الرحمة والشفقة، يراه يقع في نوعٍ من المخدر، أو يقع في شرب الدخان، أو ينظر إلى الأفلام الخليعة، ويقول: هذا مسكين، هذا معوق.

إذا كنت تنظر إليه بعين الرحمة والمسكنة، فواجبك أن تشعره بدوره، وأن توقظه من غفلته، وأن تبوأه مكاناً مناسباً يزول عنه به تلك العقدة التي علقت به من نظرة مجتمعه إليه.

ووالله -أيها الأحبة- إن الحديث عن بعض الشباب المعوقين ليؤلم ألماً عظيماً إلى حدٍ يستحي الإنسان أن يذكر ما يدور بينهم، ولكن لم نجد ألذ من الصراحة، ولم نجد أسرع في العلاج من تشخيص المرض بصراحة: يقع كثيرٌ من بعض الشباب المعوقين حتى في اللواط والزنا -والعياذ بالله- والله لقد وقع كثيرٌ منهم في هذا، وبعضهم يلتف حول بعض، ويجالس بعض، فأصبحوا في بوتقة، وفي حلقة مفرغة مغلقة، لا يعلم كثيرٌ من رجال المجتمع ما يدور في أوساطهم، ولا يجدون من يدخل إليهم حتى ينظف دائرتهم وحلقتهم مما يدور بينهم فيها.

فيا أيها الأحبة! ينبغي أن ننظر إلى إخواننا المعوقين، وأن نلتفت لهم، وأن نعطيهم من أنفسنا، ومن وقتنا، ومن شفاعاتنا، ومن حاجياتهم التي نبذلها لهم، ومن كل سبيل نستطيع أن نشعرهم من خلاله أن لهم محبة ومكانة ودوراً عظيماً، لا كما يظنه الكثير منهم أن المعوق ليس واقفاً إلا للاستجداء والمكيدة وسؤال الناس عند أبواب المساجد.

أحدهم يقول: كنت ذات يوم في المسجد، فإذ برجل يخرج من جيبه ريالات، فيضعها في يدي، إلى هذا الحد تضاءل وتناقص الفكر والعقل عند بعضهم؛ إلى حد أنه يظن أن كل معوق فقير، ليس هذا هو النظر العاقل، وليس هذا هو الموقف المطلوب، بل المطلوب هو أن نشعرهم بمكانتهم، وعن المكانة التي يمكن أن يتبوءوها، وإذا كان بعضهم لم يجد سبيلاً يستطيع من خلاله أن ينفع المجتمع، فعلينا أن نقترح، وأن نبحث عن أساليب نستطيع أن نضعهم فيها في مواقع اجتماعيةٍ مناسبةٍ نرد إليهم بها ثقتهم بأنفسهم، ومكانتهم، ونظرات المجتمع إليهم العادلة، لا كما وقع الآن من كثير من الناس بنظرة كلها انكسار وخضوع وشفقة متناهية، فالغلط أن ينظر إليهم بهذه العين حتى أصبح بعض الذين يعنون بشئونهم لا يرون علاجاً لهم إلا بالموسيقى وبالطبول وبالزمر ونحو ذلك.

آلمني ذات يومٍ ما رأيته في مجلة في مقابلة لأحد المعوقين بماذا برز؟ بماذا تفنن؟ أخرجوه وهو يضرب عوداً، ويدق أوتاراً، أهذا نموذج للمعوقين أن يظهر بين الشباب، لماذا لا نظهر معوقاً مخترعاً؟ لماذا لا نظهر معوقاً من طلبة العلم؟ هو معوقٌ، ولكن الأصحاء حوله جلوسٌ يستمعون إلى علمه، لماذا لا نظهر معوقاً له الدور البناء؟ نستطيع أن نجد آلاف ومئات المجالات التي نظهر ونبرز ونعيد الثقة لهم فيها، لا كما يظنه البعض نظراً لحالتهم الاجتماعية المرتبطة بالأحوال النفسية لا نجد لهم إلا الرسم التشكيلي، والفنون التشكيلية، والطبول والزمر، ونحو ذلك.

ليس هذا بعلاج للمعوقين، وليست هذه بخطة عمل للمعوقين، بل العلاج والخطة المناسبة أن تشعرهم أن مناط التكليف عقولهم، وليس مناط التكليف هو الرجل، أو اليد، أو العين، أو السمع، لقد سرني ما رأيته ذات يومٍ في نادي معهد الأمل للصم والبكم أن وجد عشرات عديدة من الشباب الصم والبكم عليهم سيم الالتزام في لحاهم، وفي ثيابهم، وفي سمتهم، وفي صلاتهم، بسبب شباب -أسأل الله أن يجعل جهودهم في موازينهم- دخلوا بين هؤلاء الصم، وفهموا إشاراتهم وعباراتهم، ووجدوا في صفوفهم حتى ظهر هذا الالتزام، وظهرت هذه الصحوة حتى بين الذين يشكون الصمم والبكم.

فمن الذي يكون لأولئك المعوقين، ويدخل مجتمعاتهم، ويخالطهم، ويعيد إليهم الثقة بأنفسهم حتى يشعل صحوة في الاستجابة والاستقامة لأمر الله جل وعلا؟ إن أوامر الله عامة، وليست تستثني من فقد عيناً، أو رجلاً، أو يداً، بل إنها تخاطب من له عقل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:٣٧] {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦] {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:٢٣] الآيات كثيرة التي تبين وتظهر أن مناط الأمر والاستجابة والتكليف والنهي هو العقل والقلب، وليست هي اليد والرجل.

أسأل الله أن يعافيهم، وأن يشفيهم، وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً، وأن يرينا من بينهم العلماء وطلبة العلم، والمجاهدين والمفكرين والمخترعين؛ إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.