للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كل ابتلاء من الله فيه حكمة]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً.

معاشر المؤمنين! كان الحديث في الجمعة الماضية عن المعوقين ونظرة المجتمع إليهم، وموقفهم من ذلك، وما ينبغي نحوهم، ولهم وعليهم، واليوم الحديث عن المعوقات ومشاكلهن -والله- أعظم أثراً وثقلاً على النفس من مشاكل المعوقين؛ لأن المعوق -الذكر- قد يتحرك يمنة ويسرة، وقد يذهب ويجيء، ويغدو ويروح، أما المعوقة، فطائر مكسور جناحاه.

فيا عباد الله! قبل أن نخوض في هذا الحديث ينبغي أن نقف وقفة متأملة، ألا وهي أن الإسلام نظر إلى من ابتلي ببلية نظرة فيها وعد جزيل بالثواب لمن صبر واحتسب على ذلك، أليس الله جل وعلا يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧] فمن ابتلي ببلية أياً كانت، أو إعاقة أياً كانت، ثم صبر واحتسب الأجر من الله على ذلك، فعليه من ربه صلوات ورحمة، وله من ربه الفوز والهداية، أليس الله جل وعلا يقول في شأن من صبر على ما ابتلي به: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠].

فمن رأى بلية الله فيه، ومن رأى ابتلاء الله له جل وعلا، ثم صبر وعلم أن الله رءوف بعباده، ولولا رحمة الله ورأفته بعباده لما قدر عليه ذلك، ثم سلم الأمر والحكمة لله جل وعلا، لكان هذا من أجل وأعظم أنواع التوحيد الذي لصاحبه عند الله مكانة عظيمة وأجر عظيم.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه: (من أخذت حبيبتيه -أي: عينيه- فصبر واحتسب، لم أجد له جزاءً إلا الجنة) الله أكبر يا عباد الله! الله أعلم بك، وأعلم بما يسرك، وأعلم بما ينفعك، وآتاك بمقدار فيه خيرك وصلاحك وهدايتك، ثم يأمرك بالصبر على ذلك، وبعد ذلك يعدك بالجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم.

إن الله جل وعلا ما قدر أمراً من المقادير إلا وللعباد فيه مصلحة، ووالله كم من شخص يتمنى أنه لم يبتل ببلية، ولو سلم من هذه البلية التي قدرها الله جل وعلا، فقد يكون له شأن آخر من الضلال، أو الغواية، ولكن لحكمة وتقدير وتدبير ينبغي أن يسلمها العبد لربه جل وعلا، وإذا رأى عافيةً، أو تحسناً، أو صحةً، أو مزيداً، فذاك تقديرٌ وتدبيرٌ من الله فهذا ينبغي أن يتمثله كل واحدٍ منا، وليس منا في هذه الدنيا إلا مبتلى سواءً كانت بلية ظاهرة، أو بلية باطنة ليجعل الله جل وعلا لنا هذه الدنيا داراً ننظر منها إلى الأكدار وما ينغص ملذاتها، فتكون طمعاً إلى دار لا ينكدها، ولا ينغصها شيء.

ما أضيق العيش ما دامت منغصةً لذاته بادكار الموت والهرمِ

وهذه الدنيا ليس يخلو أحدٌ فيها من بلية، أو ابتلاء، أو امتحان أياً كان هذا النوع، ظاهراً وباطناً، ولله جل وعلا في ذلك حكمة، وفي قصة أهل الكهف مما يدل على أن تقدير الله في المصيبة سواءً كانت في النفس، أو في المال، أو في غير ذلك، إنما هي لحكمة ربانية عظيمة، أليس الخضر لما ركب السفينة، خرقها، فقال له موسى: ما هذا الذي أحدثته؟ هذه مصيبة على أصحاب السفينة {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:٧١] إن هذا لأمرٌ عظيمٌ جداً، فقال له الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٦٧] ثم إنه مر على قرية، أو مكان فيه صبية، فأخذ واحداً منهم، ثم قتله وأزهق روحه، فعجب موسى من ذلك، فقال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٤ - ٧٥] ثم لما أراد أن يبين له جميع ما عجز عن الصبر عليه، قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:٧٩]، وفي قراءة: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً).

انظروا -يا عباد الله- أي الأمرين أعظم أن تخرق السفينة، فيمنع ذلك الظالم الغاشم عن مصادرتها وأخذها، أو تترك السفينة، ثم يأخذها ويدع المساكين بلا سفينة أبداً.

إذاً: فمصلحة المصيبة في خرق السفينة كانت أولى وأعظم وأجل من ترك السفينة صالحة، فهذا قدر من أقدار الله يفضي إلى الرضا، ويفضي إلى معرفة عين الحكمة، ودقة وجليل الصواب، والرحمة بأولئك الذين كان لهم الأمر والشأن، وأما الغلام الذي أزهقت روحه، فجاء بيان أمره {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:٨٠ - ٨١] فكانت مصلحة قتل هذا الغلام خيرٌ من أن يبقى، فيكون سبب فتنةٍ أي: كفرٍ على أمه وأبيه، والفتنة أشد من القتل، والكفر أشد من القتل، فكان مصلحة قتله فيها، وكان قدر قتله، أو تقدير إزهاق روحه فيها عين الرحمة، والصواب بالأم والأب وما نسل منهما من الذرية.

وهكذا فكل مصيبة نحن فيها سواءً كانت أمراضاً باطنيةً، أو عللاً ظاهرةً، والله، ثم والله، ثم والله إنها لعين العدل، وعين الحكمة، وعين الرحمة، والله جل وعلا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا فما قدر لنا شيئاً إلا وفيه مصلحة عظيمة.

لما كان النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً من معركة حنين، ومعه سبي هوازن، حصل لهم من السبي شيء كثير من الشاء والنعم والأطفال والنساء، فبينما هم كذلك -وقد أعطى كل سائل ما أعطى وطلب- بينما هم كذلك إذ جاءت امرأة تركض من بين السبي، ثم أخذت وليداً من بين السبي، فضمته إلى صدرها، وأخرجت ثديها أمام الناس، وألقمت ثديها في فم الصبي، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتظنون أن هذه تلقي بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها).

إذاً: فمن عين رحمة الله، وعين تدبير الله وتقدير الله أن قدر على العباد ما قدر، وكثيراً ما جاء من يسأل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء والعافية من البلية، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت، دعوت لك فشفيت، وإن شئت صبرت، ولك الجنة) وجاءت المرأة التي تصرع، فتتكشف، وقالت: (يا رسول الله! إني أصرع وأتكشف، فادع الله لي، فقال: إن شئت دعوت الله لكِ فشفيت، وإن شئت، صبرتِ ولك الجنة، قالت: أصبر يا رسول الله! ولكن ادع لي ألا أتكشف) فدعا لها ألا تتكشف، فصبرت حتى تنال الجنة، وأجيبت دعوة المصطفى أن إذا أتاها الصرع، أو ابتليت به أنها لا تنكشف عورتها.