للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتقم لنفسه]

ومن شأنه وسمته صلى الله عليه وسلم أنه ما كان ينتقم لنفسه.

أما نحن في هذا الزمان فإذا ابتلينا وإذا ظلمنا في أنفسنا أو في أموالنا أو في حاجاتنا أو في مصالحنا ترى البعض يلبس هذه القضية بلباس الدين، ويظن أنه ينتقم لدين الله وهو ينتقم لنفسه، ويظن أنه يذب عن دين الله وهو يذب عن نفسه، ويظن أنه ينافح عن دين الله وهو ينافح عن نفسه، وإن تجريد المقاصد وإخلاص النيات لأمر عظيم، فالناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.

فلنتعود -أيها الأحبة- أن تكون غيرتنا وأن يكون غضبنا وأمرنا وسعينا وإقبالنا وغدونا ورواحنا خالصاً لوجه الله عز وجل، وما أعظم شأن الإخلاص في هذا الزمان! والله إن الواحد -أيها الأحبة- ليخشى أن يلقى الله عز وجل ما قبل من خطبه ولا من محاضراته ولا من أعماله ولا من سعيه ولا من كتابته ولا من كل ما يفعل شيئاً، والخطر على الجميع من متصدق أو مجاهد أو أو إلى آخره، إذا سمع وتلا قول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:٣٩].

نعم -أيها الأحبة- إن العاقل يخشى أن ينقلب عمله فيكون هباءً منثوراً، إن العاقل إذا قرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) أشرك شهرته، أشرك شخصيته، أشرك هواه، أشرك مصلحته، أشرك جانبه الشخصي، أشرك أموره، أشرك منفعته فإن الله غني عن هذا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فلنمحض الإخلاص -أيها الأحبة- قبل أن نفد على الله عز وجل فيقال لأحدنا: يا عبدي ما قبلنا صيامك! ما قبلنا صلاتك! ما قبلنا خطبك! ما قبلنا كلامك تأليفك عملك سعيك صدقتك! لأن العاقل والله يخشى -أيها الأحبة- أن يكون عمله هباءً منثوراً، وعلينا أن نجاهد وأن ندقق في هذا الأمر، وألا نخدع ذواتنا فنظن أننا نخدم الدين ونحن ربما استخدمناه، قالها رجل كبير قابلته في زغرب القريبة من البوسنة في مؤتمر لحقوق الإنسان فقال ذلك الرجل الطاعن في السن الكبير وقد التفت إلي: يا بني! ما أسهل أن نستخدم الإسلام! وما أشق وما أعظم أن نخدم الإسلام! إن استخدام الإسلام سهل، واستخدام الإسلام يكسب أرباحاً وتجارة ومنافع وصولة وجولة وبروزاً وشهرةً وتقدماً، ما أسهل أن نستخدم الإسلام! ولكن ما أعظم وأشق أن نخدم الإسلام خدمة نتجرد فيها من كل مصالحنا! أيها الأحبة: لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، ونحن اليوم لا نشكو أزمةً أخلاقية في الأخلاق التجارية، وفي أخلاق المجاملات، وفي أخلاق المداهنات، وفي أخلاق المصالح، وفي أخلاق المعاملات، تلك لا نشكو من أزمة فيها وإنما نشكو تكدساً وكساداً وزخماً وتضخماً فيها، أما الأخلاق الخالصة، أما الأخلاق النقية، أما المعاملة التي باعثها ومقصدها وجه الله عز وجل، وأولها وآخرها وجه الله عز وجل فما أندرها في هذا الزمان!! إن من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في عظيم تواضعه، ولين لطفه، وكريم شمائله، ما ذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قام خطيباً فقال: [إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، كان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناساً يعلموني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط] وكأن عثمان رضي الله عنه يشير إلى الذين ألبوا الجموع حوله، وأشعلوا الفتنة في عهده، وجمعوا الناس ينتقدونه ويقولون في عثمان ما يقولون؛ فقام عثمان في خطبة ويقسم بالله فيقول: (صحبنا نبينا في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به) أي: أناس لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون عثمان بالنبي صلى الله عليه وسلم! يعلمون عثمان المبشر بالجنة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن التطاول من قديم وليس في هذا الزمن الذي رأينا وسمعنا من يتطاول فيه على إمام أهل العلم في هذا الزمان، على وجه الأرض قاطبة فيما نعلم وهو سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، لقد أوذينا في إمامنا، وأوذينا في علامة أمتنا، وأوذينا في علامة ملتنا، وأوذينا في مفتي هذه الملة وهذه الطائفة المنصورة المباركة، لقد أوذينا في عرض شيخنا وعرض إمامنا، يتكلم فيه الأقزام، يقولون فيه ما يقولون:

إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل

وطاولت السحب السماء سفاهة وفاخرت الأرض الحصى والجنادل

وقال السهى للشمس أنت خفية وقال الدجى يا صبح لونك حائل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل

أصبح الصغار يتطاولون على الكبار! أصبح الجهلة يتطاولون على العلماء! أصبح البخلاء يتطاولون على الكرماء! يا سبحان الله! متى عرفنا هذا التطاول إلا في منشور يتسلل لواذاً ويدس دسيسة، من أجل تفريقكم يا شباب الصحوة، من أجل الفجوة العظيمة التي يراد لها أن تزداد بين العلماء والعامة، وبين الولاة والعلماء، وبين العامة والولاة، نحن لا نقول: قولوا للأسود إنه أبيض، ولا نقول: سموا المنكر معروفاً، ولا قولوا للباطل حقاً، فإن الباطل باطل، والظلم ظلم، والشر شر، ولكن إن سبيل الإصلاح إذا بلغ بطريق أصبح الأمر فيه يتطاول أصحابه أو شأنه إلى الكبار وإلى العلماء، وإلى الذين شابت لحاهم في الإسلام، وبلغوا منزلة فيما ندين لله عز وجل، بلغوا منزلة ما أصبح يضرهم ذم ذام ولا مدح مادح؛ لما علم من صلاحهم، ونسأل الله أن يثبتهم، ولا ندعي العصمة لهم، إذا بلغ الأمر هذا فمن يعذرنا -أيها الأحبة- من أناس تطاولوا على علمائنا وأئمتنا؟ وأنتم المستهدفون، وأنتم المقصودون فافهموا ما تسمعون، وأدركوا ما تقرءون فإن وراء الأكمة ما وراءها:

أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام

نبينا صلى الله عليه وسلم خير الخليقة:

وما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمةً من محمد

ورضي الله عن حسان حيث قال:

إذا ما الأشربات ذكرن يوماً فهن لطيب الراحل فداء

فأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء