للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شبهة في الطعن في حلمه صلى الله عليه وسلم والرد عليها]

قد يقول قائل: إن من الناس من يدعوه للعفو هوان شأنه أو ضعف أمره، أو قلة حيلته أو حدود مكانته -أي: لم يبلغ مكانة عظيمة- فنقول: إن مكانة النبي عظيمة، وإن منزلته كريمة، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه -وهذا الحديث هو حديث الشفاعة الطويل الذي يدلنا على عظم منزلة النبي ومكانته- قال: (أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فصلى الغداة، ثم جلس حتى إذا كان من الضحى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس مكانه حتى صلى الأولى والعصر والمغرب؛ كل ذلك لا يتكلم حتى صلى العشاء الآخرة، ثم قام إلى أهله فقال الناس لـ أبي بكر: ألا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قط.

قال: فسأله.

فقال: نعم.

عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا وأمر الآخرة، فجمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، ففظع الناس بذلك حتى انطلقوا إلى آدم عليه السلام والعرق يكاد يلجمهم فقالوا: يا آدم! أنت أبو البشر، اصطفاك الله عز وجل، اشفع لنا إلى ربك.

فقال: لقد لقيت مثل الذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوح: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٣٣] قال: فينطلقون إلى نوح عليه السلام فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك الله، واستجاب لك في دعائك، ولم يدع على الأرض من الكافرين دياراً، فيقول: ليس ذاكم عندي، انطلقوا إلى إبراهيم عليه السلام، فإن الله عز وجل اتخذه خليلا.

فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى موسى عليه السلام فإن الله عز وجل كلمه تكليماً، فيقول موسى عليه السلام: ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى عيسى ابن مريم فإنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى.

فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، انطلقوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع لكم إلى ربكم عز وجل.

قال: فينطلق، فيأتي جبريل عليه السلام ربه فيقول الله عز وجل: ائذن له وبشره بالجنة، قال: فينطلق به جبريل فيخر ساجداً قدر جمعة -بمقدار أسبوع- ويقول الله عز وجل: ارفع رأسك يا محمد، وقل يُسمع، واشفع تُشفع.

قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه عز وجل خر ساجداً قدر جمعة أخرى، فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تُشفع.

قال: فيذهب ليقع ساجداً فيأخذ جبريل عليه السلام بضبعيه فيفتح الله عز وجل عليه من الدعاء شيئاً لم يفتحه على بشر قط، فيقول: أي ربي! خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، حتى إنه ليرد على الحوض أكثر مما بين صنعاء وإيلة، ثم يقول: ادع الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادع الأنبياء، قال: فيجيء النبي ومعه العصابة، والنبي ومعه الخمسة والستة، والنبي وليس معه أحد.

ثم يقال: ادع الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، وقال: فإذا فعلت الشهداء ذلك.

قال: يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً).

إن هذا الحديث الطويل الذي رواه الإمام أحمد في مسنده لدليل على ما للنبي من المنزلة، وما له من العظمة، وما له من الكرامة، وما له من الرفعة العالية عند رب العالمين عز وجل، فما كان عفوه عن ضعف، هذه منزلته وذاك عفوه، هذه كرامته وذاك صفحه، هذا قدره وذاك إحسانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].

عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال: (إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال: "قد كنا نقرأ أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطري ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) هذا شأنه وتلك كرامته عند الله، ومع ذلك لا يرضى بالمديح ولا بالغلو فيه ولا بالإطراء وإنما يقول: إنما أنا عبد.

ولقد شرفه الله بهذه العبودية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:١] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:١] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن:١٩] فأشرف منزلة لإمام الهدى أن يكون عبداً لله، وقد أكرمه الله عز وجل بذلك.