للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انتقاله إلى ربه صلى الله عليه وسلم]

هكذا -أيها الأحبة- كان صلى الله عليه وسلم يعطي ويبذل بذلاً سخياً، ومع أنا لم نحط بدرر سيرته -وكل سيرته أقمار ولآلئ ودرر- صلى الله عليه وسلم إلا أن سنة الله ماضية: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠].

ولو كانت الأعمار تبقى لواحد رأيت رسول الله حياً مخلدا

روى البزار في مسنده وصححه الحاكم قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:٣٤] قال الله لنبيه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠] والنبي صلى الله عليه وسلم يعزي من ابتلي بمصيبة أن يذكر مصيبة الأمة في فراقه صلى الله عليه وسلم؛ حيث روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته فيّ فإنها أعظم المصائب) رواه الإمام مالك والدارمي والطبراني في الكبير وغيره.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته في عن مصيبته التي تصيبه، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) رواه ابن ماجة

اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد

فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد

صلى الله عليه وسلم.

نعم -أيها الأحبة- لا بد من الفراق، ولا بد من الوداع، هذه الصفحات المشرقة والليالي المقمرة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، والأيام المنيرة بشمائله صلى الله عليه وسلم، لا بد لهذا النبي من سنة الله في خلقه أن يموت وأن يفارق هذه الدنيا:

عزاء فما ينفع الجازع ودمع الأسى أبداً ضائع

بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحد راجع

عرفنا المصائب قبل الوقوع فما زادنا الحادث الواقع

وكل أبي لداع الحِمام إن يدعه سامع طائع

يسلم مهجته سامحاً كما مد راحته البائع

وللمرء لو كان ينجي الفرار في الأرض مضطرب واسع

وكيف يوقى الفتى ما يخاف إذا كان حاصده الزارع؟

ولو أن من حدث سالماً لما خسف القمر الطالع

لو أن الأحداث يسلم منها أحد، لو أن الموت يسلم منه أحد، لو كانت الأعمار تبقى لواحد لرأيت رسول الله حياً مخلداً، فقد كتب الله على نبيه ما كتب، فعن عائشة قالت: (كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير قالت: فلما اشتكى وحضره القبض غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى، تقول عائشة: فقلت: إذاً لا يختارنا) رواه البخاري ومسلم.

ولما نزل به صلى الله عليه وسلم الموت طفق يطرح خميصةً له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو كذلك، ثم يقول: (لعنة الله على اليهود، لعنة الله على اليهود، لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري.

وقد دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد عبد الرحمن سواك وعائشة قد أسندت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، تقول عائشة: (فرأيت رسول الله ينظر إلى السواك في يد عبد الرحمن فعلمت أنه ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك.

فأشار بيده أن نعم، قالت: وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل صلى الله عليه وسلم يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه الشريف يقول: لا إله إلا الله.

إن للموت لسكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الكرب يتغشاه قالت فاطمة عليها السلام: واكرب أبتاه! فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب رباً دعاه يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه).

فلما دفن وعاد الصحابة بعد دفنه صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة عليها السلام: (يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) رواه البخاري.

وعن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر في العالية فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي! طبت حياً وميتاً يا رسول الله، والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبداً.

ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه ووجد عمر يتكلم والناس حوله، فلما تكلم أبو بكر التفت الناس إليه وتركوا عمر، فجلس عمر وقام أبو بكر وأثنى على الله وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤] فكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية أنزلت حتى تلاها أبو بكر، قال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى هويت إلى الأرض -سقطت على الأرض- وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات).

صُلي عليه صلى الله عليه وسلم، ودفن وغسل صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما تيقن عمر أنه قد مات صلى الله عليه وسلم من شدة حبه لنبيه إمام الهدى.

فهذا نبينا، وهذا إمام الهدى صلى الله عليه وسلم، وما أجمل قول القائل فيه:

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا منها وما يتعشق الكبراء

زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء

وإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء

وإذا عفوت فقادراً ومقدراً لا يستهين بعفوك الجهلاء

وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء

وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا ضغن ولا بغضاء

وإذ رضيت فذاك في مرضاته ورضا الكثير تحلم ورياء

وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو النديَّ وللقلوب بكاء

وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء

وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء

بك يا بن عبد الله قامت سمحة بالحق من ملل الهدى غراء

بنيت على التوحيد وهي حقيقة نادى بها الحكماء والعقلاء

الله فوق الخلق فيها وحده والناس تحت لوائها أكفاء

والدين يسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء

أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في حق الحياة سواء

صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء

أيها الأحبة: حق نبينا صلى الله عليه وسلم أن نكثر من الصلاة عليه خاصة يوم الجمعة وليلتها، وأن ننافح عن سنته، وأن ننشر دعوته، وأن نهتدي بهديه، وأن نصدق حبه باتباعنا.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.