للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور لرد الحق على مرور التاريخ]

إن لرد الحق على مرور التاريخ صوراً عديدة، فتارة يرد الحق؛ لأن الذي جاء به ضعيف كما قال قوم شعيب له: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:٩١] فإنهم يرون أن شعيباً ضعيف، ويرون ضعفه سبباً لرد الحق الذي جاء به، وآخرون يرون أن الفقر والفاقة والمسكنة سبب لرد الحق ممن جاء به، ولذلك قال فرعون يحدث قومه ويرد الحق الذي جاء به موسى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:٥٢] وهو يفتخر بأمواله ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:٥١].

وقريش تقول لمحمد: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:٥٣] فهذه صورة من الصور التي بينها القرآن وذكرتها السنة في حال كثير من الذين يردون الحق ولا يقبلونه ممن جاء به.

وإن كثيراً ممن يردون الحق لا يردونه لأنهم يجهلونه، والله إنهم ليعلمونه ويعرفونه، ولكن الظلم والكبر، والهوى والعلو، والعناد والإصرار هو الذي ساقهم لذلك، قال عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص:٥٠] لم يقل: فإنهم يجهلون أو لا يعلمون أو لا يفقهون أو لا يدركون، قال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:٥٠] وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣] إنه لم يضل عن جهل ولم يضل عن نقص فقه أو فهم، وإنما ضل على علم، كذلك الهوى يعمي صاحبه عن البصيرة ويرده عن اتباع الصراط المستقيم.

فالحق أبلج، حينما ندعو من ضل عن الحق إلى الحق ندعوه بدعوة الله عز وجل لا نسبه ولا نشتمه: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١٠٨] وإنما شفاء العي

السؤال

{ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣] وحينما نعالج المريض فإننا لا نشتمه ولا نشتم مرضه، وأول ما نحتاج إليه وأول ما ننبهه إليه أن ندعوه إلى استخدام عقله وفكره؛ حتى لا يكون من الذين قال الله فيهم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:١٧٩] إن من الصور الواردة في رد الحق ودفعه ممن جاء به، ما ذكره القرآن في مواضع شتى، وإن الحاصر والمتتبع لها في القرآن ليجد صورة من الصور تكررت في مواجهة كثير من الأنبياء والرسل، تلكم الصورة التي يرد فيها الضالون الحق ممن جاء به؛ لا لأن عندهم حقاً يوازيه أو ينافسه أو أفضل منه، ولا لأنهم لم يفقهوه، ولا لأنهم لم يدركوه، وإنما قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:٢٢].

قال الله عز وجل: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:٢١ - ٢٤] في هذه الآية ذكر ردهم للحق بسبب اتباعهم لآبائهم.

فالأولى قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، والأمة في هذه الآية بمعنى الملة والطريقة {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢] وبعد هذه الآية في نفس السورة: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣] يقول ابن كثير: يقول عز وجل منكراً على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ} [الزخرف:٢١] إي من قبل شركهم، من قبل ضلالهم وبدعهم، من قبل ظلمهم وعدوانهم، هل عندهم كتاب كانوا به يستمسكون؟ ثم بين عز وجل أن حجتهم في هذا أن آباءهم سبقوا إلى هذا، وهذا حال كثير من أمثالهم ونظرائهم.

ويقول عز وجل في آية أخرى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون َ} [البقرة:١٧٠] قال المفسرون: إن هؤلاء إذا قيل لهم اتبعوا ما جاءت به الرسل من عند الله، وما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام النبي وحي يُوحى؛ لأن النبي لا ينطق عن الهوى، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال قالوا: لا.

بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والأنداد، فينكر الله عليهم: أولو كان آباؤكم هؤلاء الذين تتبعونهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، أي: أنتم مصرون على اتباع آبائكم وأجدادكم حتى ولو كان آباؤكم ليس عندهم كتاب يستمسكون به، ولا فهماً، ولا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.

وفي آية ثالثة يقول عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا} [المائدة:١٠٤] ما هو حسبهم، وما الذي يكفيهم، وما الذي ملأ قلوبهم دون هذا الحق؟ {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:١٠٤] قال المفسرون: أي أنهم إذا دعوا إلى الله وشرعه وما أوجبه، وإذا دعوا إلى ترك ما حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: حسبنا، أي: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك، فالله يرد عليهم ويقول: أولو كان آباؤكم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؛ أفأنتم تتبعونهم حتى ولو كانوا لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون أبداً.

بل وأخبث من هذا وأضل أنهم يفعلون الفواحش والمنكرات ويحتجون بأنهم ألفوا آباءهم عليها وهم سائرون على ما سار عليه أسلافهم، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:٢٨] انظروا الكذب والعياذ بالله، يحتجون بآبائهم ثم يكذبون على الله ويقولون إن الله أمرهم بها: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٢٨] تعالى الله ربنا عز وجل، مولانا وخالقنا، الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، وهدانا، ومن كل خير سألناه أعطانا، أيأمر ربنا بالفحشاء وهو الذي حرمها: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:٣٣] ربنا الذي يحرم الفواحش ظاهرها وباطنها أيعقل أنه عز وجل يأمر بالفحشاء؟! أفيكون هذا دليلاً وحجة يكذبون على الله ويحتجون بآبائهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:٢٨ - ٢٩] والعبرة في النصوص القرآنية والنصوص النبوية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن كان لهذه الآية سبب وقصة كما ذكر ابن كثير قال: كانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، فكانت قريش وتسمى الحمس، ويقال حمساً حمستهم الشمس، كانوا يطوفون في ثيابهم، وما سواهم من قبائل العرب يقولون: لا نطوف بالبيت وعلينا ثياب عصينا الله فيها، فمن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه، ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً ولم يجد أحداً من الحمس يعيره ثوباً طاف عريانا، وربما كانت المرأة تطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر وتقول وهي تطوف:

اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا نحله

وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وهذا شيء ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند من أمر من الله وشرعه فأنكر الله عليهم ذلك بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:٢٨] فرد عليهم ربنا عز وجل فقال: قل أي: يا محمد إن الله لا يأمر بالفحشاء، هذا الذي يصنعونه منكر وفاحشة والله لا يأمر به، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟!