للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النهي عن التقليد المحموم]

أيها الأحبة: إن التقليد المحموم والاتباع على ضلالة لمن أخطر الأمور؛ لأجل ذلك فإن المسلم منهي عن التقليد إلا إن كان عاجزاً عن الاجتهاد، فيتبع من شهدت له الأمة بصلاح منهجه وسلامة طريقته في الاتباع واستنباط الأحكام والأدلة.

قال ابن عبد البر في مسألة مهمة: هل الآيات الواردة في شأن الكفار لا يستدل بها إلا على الكفار وحدهم؟ كأن يقول قائل: يا شيخ! محاضرتك أو كلامك هذا في شأن الكفار، نقول: هذه الآيات في شأن الكفار وفي شأن المقلدين، وفي شأن الأتباع والمتبوعين.

قال ابن عبد البر في مسألة مهمة وهي: هل الآيات الواردة في شأن الكفار لا يستدل بها إلا الكفار فقط؟ أجاب رحمه الله: وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل رجلاً فكفر، وقلد رجل آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة من مسائل الدنيا فأخطأ وجهتها، فكان كل واحد منهم ملوماً على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضاً وإن اختلفت الآثام فيهم.

أيها الأحبة: إن التقليد لمما يلبسه الشيطان على هذه الأمة لتزيغ في اتباع إبليس.

قال ابن الجوزي رحمه الله في كتابه تلبيس إبليس، قال: ومما لبسه الشيطان على هذه الأمة في العقائد والديانات: أن دخل عليها في عقيدتها من طريقين: أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف.

والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره ويعجز الخائب عن الوصول إلى عمقه.

فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط.

فأما الفريق الأول فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه، والصواب قد يخفى والتقليد سليم، وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا، وكذلك أهل الجاهلية، ثم قال ابن الجوزي: وقد ذم الله سبحانه الواقفين مع تقليد آبائهم وأسلافهم فقال عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:٢٣ - ٢٤] المعنى: أتتبعون.

أنتم الآن تقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:٢٤] إذا جئتكم بكتاب من عند الله لا يضل ربي ولا ينسى، بكتاب من عند الله الذي خلقني وخلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم، هل تتبعون وتستجيبون؟ لكنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون.

قال ابن الجوزي: اعلم أن المقلد غير واثق فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال لمنفعة العقل، لأن العقل إنما خلق للتأمل والتدبر.

قال ابن الجوزي كلمة جميلة احفظوها: وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة.

أي: يعطيه الله نور العقل فيترك شمعة العقل ويتبع أقواماً آخرين في ضلال أفعالهم وسلوكهم، فلم لا يستدل بشمعة عقله ويستضيء به؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما التقليد الباطل المذموم: فهو قبول قول الغير بلا حجة.

ثم قال بعد أن ساق بعض الآيات في ذلك: فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله، وهو اتباع الهوى، إما للعادة أو النسب كاتباع الآباء، وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين، فقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزله على رسله فإنهم حجة الله، أي: الرسل حجة الله التي أعذر الله بها إلى خلقه.