للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأخذ بالاحتياط في الأمور المشتبهات]

وهنا كلام عام للشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، قال رحمه الله وهو يذكر أموراً ينبغي للإنسان أن يقدم التفكر فيها ويجعلها نصب عينيه وهي: ينبغي لمن كان في ضلالة أو شبهة من ضلالة أن يأخذ نفسه بالاحتياط في مخالفة ما نشأ عليه، فإذا كان مما نشأ عليه أشياء يرى هو أنه لا بأس بها، ويرى أنها مستحبة، ويعلم من آخرين من أهل العلم من يقول أنها شرك أو بدعة أو حرام فليأخذ نفسه بالأحوط وليتركها حتى يتبين له بالحجج الواضحة صحة ما نشأ عليه.

وهكذا ينبغي أن ينصح غيره ممن هو في مثل حاله، فإن وجدت نفسك تأبى ذلك- إذا وجدت نفسك تميل إلى ما تشتهي أو تميل إلى ما تراه مباحاً وأنت تسمع بملايين من حولك يقولون: هذا حرام ولا يجوز -فإذا وجدت نفسك تأبى ذلك فاعلم أن الهوى قد استحوذ على نفسك فجاهدها، واعلم أن ثبوت هذا القدر على المكلف -يعني: أن يثبت عنده أن ما يُدعى إليه أحوط مما هو عنده- كاف في قيام الحجة عند الله عز وجل، وبذلك قامت الحجة على أكثر الكفار، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:٤٦].

إلى الذين يردون أنفسهم وينهون وينأون عن الحق -يا عباد الله- أعظكم بواحدة، أدعوكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا، لا نريد معارك ولا نريد سباباً ولا شتائم، نريد تحكيم هذا العقل المهتدي بمنطق الشرع.

نريدك أن تعطينا عقلك فنتناقش: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:٤٦] لماذا قال مثنى وفرادى؟ لأن الإنسان إذا دخل مع مجموعة وهتفت المجموعة يهتف مع المجموعة ولا يبالي، ويصرخ مع المجموعة ولا يفكر، ويردد ما تقوله المجموعة ولا يتأمل.

يقول أحد علماء النفس والاجتماع: إن الجماهير لا عقول لها، ويضرب على ذلك مثال بمظاهرات العمال، يقول: مثلاً مظاهرات العمال أو حزب العمال في ألمانيا الغربية تبدأ المظاهرة بمطالبة رفع أجور العمال بواحد مارك ألماني، وتبدأ مسيرة المظاهرة ثم تردد المظاهرة ارفعوا أجور العمال واحد مارك، ارفعوا أجور العمال واحد مارك، وبعد قليل مع الحماس والغليان في أوج المظاهرة يقول قائد المظاهرة: فليسقط وزير العمل، فتردد المظاهرة وليسقط وزير العمل، ونريد رفع أجور العمال بمارك، تدخل معلومة في إثر معلومة من دون تفكير، ويتحمس لها أناس، فتدخل قوات الشرطة فيصارعون الشرطة ويكافحونهم ويضاربونهم، وأصل المظاهرة بدأت بمارك واحد، ما جاءت المظاهرة بإسقاط وزير العمل، ثم بعد قليل يشتد الحماس فيقول المتظاهرون: ولنحطم مبنى وزارة العمل ولنكسر الزجاج، فكل يأخذ الحجارة ويضرب على مبنى وزارة العمل.

والعقول كما يقول علماء الاجتماع: العقول في المجموعة تضيع، لكن إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى، أعطني عقلك وأعطيك عقلي ونتناقش بحوار وبحجة ولا ندخل في الضجيج؛ لأن الكلام في الضجيج والغوغاء لا يسمع، طرح الأفكار أمام الغوغاء لا ينفع.

ولأجل ذلك أدعو نفسي وإخواني إلى دعوة كل ضال ترونه حتى وإن كان في ظاهر الأمر لا يقبل، بلغ لأن الانتصار هو البلاغ، وليس الانتصار أن تغسل عقول الناس، الانتصار هو أن تبلغ؛ لأن الله أحكم وأعلم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:٩٩] ليست مهمتنا أن نغسل عقول الناس، فلنفرض أنك في مكان فيه تسعمائة ألف كافر ومائة ألف مسلم مثلا، مهمتك هي أن تدعو إلى الله، فإذا لم يستجب لك من هؤلاء واحد فلا يعتبر ذلك فشلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ورأيت النبي يوم القيامة يجيء ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان) يعني النبي ما أسلم معه إلا سبعة أو ثمانية، أو خمسة عشر أو سبعة عشر، والنبي ما أسلم معه إلا واحد، ونبي لم يسلم معه إلا اثنان، قال: (ورأيت النبي وليس معه أحد) هل نعتبر أن هذا النبي فاشل؟ هل نعتبر أن هذا النبي لم يفهم، ليس النجاح في الدعوة هو أن تذهب نفسك حسرات على الذين عرض عليهم الحق فلم يستجيبوا له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:٦].

قال الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:٩٩] ويقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] لكن الانتصار الحقيقي هو أن ندعو إلى الله عز وجل وأن نبين كلام الله، وأن نبين كلام رسوله، وأن نبين كلام صحابته الكرام: {وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:٢٩].

أيها الأحبة: إن أولئك الذين يردون الحق ولا يستجيبون له لا يردونه عن قناعة، وإنما تارة يحتقرون من جاء به، وتارة يرونه ضعيفاً، وتارة يرونه فقيراً، وأعجب من ذلك أن بعض الطوائف لا تزال حبيبهم وصديقهم وسوياً في أعينهم وكريماً بينهم ما لم تدعهم إلى الهدى، فإذا دعوتهم إلى الهدى سقطت من أعينهم وهذا المنطق ليس بجديد كما قال قوم صالح له: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} [هود:٦٢] أي: قد كنا نحترمك قبل هذا يا صالح، وكانت لك منزلة في نفوسنا: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:٦٢] بعض طوائف الضلالة يحرجونك بجو من الاحترام وجو (بالإتكيت) كما يسمى، حتى تهاب دعوتهم، لكن إذا دعوتهم انظر إلى منزلتك بينهم.