للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمل لما بعد الموت]

وينبغي أن تعلم أن هذا الوقت له نهاية، ليس هذا الوقت مستمراً، لن تدوم هذه العين ترى إشراق الشمس وغروبها، لا، لك نهاية تقف عندها، حينما تقول الملائكة: يا رب لم يبق له شربة إلا شربها، لم يبق له لقمة إلا أكلها، لم يبق له خطوة إلا مشاها، لم يبق له درهم إلا أنفقه، لم يبق عنده دينار إلا اكتسبه، حينما يقال هذا الأمر فيك؛ فقد حانت ساعتك، وتذكر قول القائل:

بين عيني كل حيٍ علم الموت يلوح

نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح

لتموتن ولو عمرت ما عمر نوح

أي: ليس لك بعد هذا الوقت إلا الموت، إذاً فاستعد لما بعد الموت، يُقال: إن ملك الموت نزل على موسى عليه السلام، قال: إني أستأذن عليك، قال: وما تريد؟ قال: أريد أن أقبض روحك، قال: تقبض روحي؟! فلطمه حتى فقأ عينه.

فعاد ملك الموت إلى رب العزة جل وعلا، وقال: يا رب أرسلتني إلى عبد من عبادك لا يريد الموت، قال: اذهب وقل له: ضع يدك على جلد ثور، فما غطت يدك من شعراته، فهو لك عمر، فذهب ملك الموت إلى موسى عليه السلام، وقال له ذلك، قال: ثم ماذا يا ملك الموت؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، أي: اقبض روحي.

إذاً ما دام أن الأمر أنك لا محالة منتقل عن هذه الدنيا، فاستعد بالأعمال الصالحة، بل إن السلف كانوا يتمنون لقاء الله جل وعلا، ولقاء الله يكون بعد الموت، لقاء الله جل وعلا يكون بالاستعداد والأعمال الصالحة، والأعمال الطيبة الزاكية الخالصة لوجه الله يموت من شوقه إلى الموت.

فينبغي أن نقدم قبل الموت، وقبل نهاية الوقت أعمالاً تنفعنا عند الله جل وعلا، ولنجتهد بالعمر الثاني، لأن العمر للإنسان عمران: عمر في الدنيا وعمر بعد موته ألا وهو الذكر الطيب والثناء الصالح الذي هو دليل رضا الله جل وعلا، يقول القائل:

دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمرٌ ثان

ومن أجل ذلك أيها الشباب! أود أن أذكركم، بل أرجو أن تكونوا من الذين بعد عمرٍ طويلٍ , وعملٍ صالحٍ إن شاء الله يذكرون في هذه الدنيا بالأعمال الطيبة الصالحة، لا أن يولد الإنسان ويعيش ويكبر ويشيب ويموت كالبهيمة، كم يذبح اليوم في المذبح من البهائم، هل يذكر الناس بهيمة من البهائم؟ لا، البهائم بهائم لا تُذكر بشيء، لكن البشر يذكرون بالأعمال الصالحة، البشر يخلدون ذكرهم بعد موتهم بأفعالهم وأعمالهم، ومن أجل ذلك يقول إبراهيم بن أدهم، وهذه أبيات كثيرة أرددها، وأتمثل بها، وأدعو إخواني أيضاً إلى أن يتمثلوا بها، يقول:

إذا ما مات ذو علمٍ وتقوى فقد ثُلمت من الإسلام ثلمة

وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمة

وموت فتىً كثير الجود محلٌ فإن بقاءه خصبٌ ونعمة

وموت الفارس الضرغامِ هدمٌ فكم شهدت له بالنصر عزمة

وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمة

فحسبك خمسةٌ يُبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة

وباقي الخلق همجٌ رعاعٌ وفي إيجادهم لله حكمة

فينبغي أيها الأخ المسلم أن تكون من هؤلاء الخمسة الذين إذا توفتهم رحمة الله بعد عمر طويل وعمل صالح، يقال: رحمه الله لقد خلف أولاداً نفعوا الأمة والمجتمع، لقد كان معلماً نافعاً لتلاميذه، لقد كان قائداً مغواراً، لقد كان داعيةً مجاهداً، لقد كان تاجراً باذلاً، لقد كان موظفاً أميناً، لقد كان مفكراً محنكاً، لقد كان عابداً صواماً قواماً، ليس ذلك محبة لثناء الناس وذكرهم فقط، لا، بل حينما تُذكر، يدعى لك ألا وهي العمر الثاني، والصدقة الجارية (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) فقد يدعو لك ولدك والناس أجمعون إذا خلدت في هذا الكون عملاً صالحاً.

إمام الدعوة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه في جناته وأمطر صكوك الرحمة عليه، لا زال الناس يدينون بالفضل والثناء بفضل الله جل وعلا ثم له فيما هم فيه من التوحيد، وجد الناس في ضلال، أو في خبال يعبدون الأشجار والأحجار والأصنام وغير ذلك، فجرد نفسه لله وطلب علماً دقيقاً شرعياً، وجاهد في الله حق جهاده حتى هز الأتراك، وهو في الدرعية، أرسل رسالة إلى نظام المقام العالي في الدولة العثمانية التركية أن اهدموا ما عندكم من القبور.

إنه داعية موحد هز الدنيا بدعوته الإصلاحية، من منكم يا شباب الإسلام يُعاهد الله جل وعلا عهداً وميثاقاً صادقاً أن يكون له في هذا المجتمع لبنة واضحة تُذكر من بعده، أو يدعى له فيها؟ كلنا يسأل الله أن يكون ذلك، فابذلوا واجتهدوا واحرصوا، وكل ميسر لما خلق له.