للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وفي أنفسكم أفلا تبصرون]

أيها الأحبة: إن هذه الحال تدعونا أن نخاطب كل شاب فنقول له: يا أيها الغافل! أين الطريق؟! يا أيها الغافل! إلى متى الغفلة؟! يا أيها الضال! هل عرفت الهداية؟! يا أيها الجاهل هل ستسلك سبيل العلم؟ يا أيها المستغرق في شهواته ولذاته! هل أدركت حقيقة دنياك، وهل تفكرت في بدايتك ونهايتك؟! هل تفكرت من أي شيء خلقت، ولأي شيء خلقت، ولأي غاية خلقت؟! اعلم أيها المتصدر! اعلم أيها الجاهل! اعلم أيها المسكين -الذي غفل وضل عن طاعة ربه- أنك لو تأملت أصل خلقتك لوجدتها خلقة مهينة لا ترفع بها رأساً، ولا كرامة لها إلا بما نفخ الله بها من روح وكرمها بوحي وهدى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٢ - ١٦].

هذه آية من كلام الله عز وجل، الوحي الرباني يخبرك أيها الشباب ما هي بدايتك، وما هي مراحل حياتك، وما هي نهايتك، (يا أيها الناس) وأنت أيها الشاب من هؤلاء الناس الذين يدخلون في هذا الخطاب وهذا النداء، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)) [الحج:٥] هل رأيت التراب الذي تدوسه بحذائك؟ هل رأيت التراب الذي تطأه بقدميك؟ هل رأيت التراب الذي تمشي عليه الكلاب والدواب وتغرس فيه الأشجار؟ إنك في أصل خلقتك من هذا التراب

خفف الوطء ما أظن أن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد

رب لحد قد صار لحداً مراراً والهاً من تزاحم الأضداد

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:٥].

وهذه من دلالات البعث بعد الموت، ومن شواهد الخلق بعد الفناء، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:٦].

أيها الشاب! اعرف حقيقة خلقتك حتى إذا قال الداعي: حي على الفلاح، أدركت يا أيتها النطفة، يا أيتها المضغة، يا أيتها العلقة، يا أيتها النطفة المذرة من الماء المهين، كيف تتكبرين على داعي الفلاح ومنادي الله عز وجل فتزورين وتنقلبين أو تتقهقرين وتترددين، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] ((أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)) [يّس:٧٧] {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:٥ - ٦] نعم.

نبدأ بهذه القضية في خطابنا لكل شاب نناديه لكي يقلع عن الغواية ويعود إلى الهداية، نناديه لكي يترك مجالس اللهو ليعود إلى مجالس الذكر، نناديه لكي يترك كل ما يضره ويصده عن طاعة الله، ليعود إلى ذكر الله وطاعة الله، فنقول له من البداية: إن تصورك لحقيقة نفسك وحقيقة تكوينك هي التي تجعلك تنقاد خاضعاً مختاراً طائعاً لا خيار لنفسك في نفسك.

إنك أخي الكريم! يوم أن تحاسب أحداً من موظفيك أو أحد عمالك، استخدمته براتب أو بأجرة وفيرة، ثم رأيته يتصرف في مؤسستك، ويبذر في مالك، ويعتدي ويخالف، ويعزل ويفعل، ويأمر وينهى، ولا يألو جهداً في أن يفسد أو يخالف أو يستثير غضبك فإنك أول ما تدعوه تقول له: من أنت؟ تريد أن تذكره بحقيقة نفسه، وتريد أن تذكره بحقيقة موقعه، وبحقيقة وضعه في هذه الشركة أو في هذه المؤسسة، تريد بهذا أن تقول له: إن وضعك لا يسمح لك بالأمر، ولا يسمح لك بالنهي ولا يأذن لك بالتصرف، فأنت متصرف فيك، مأمور في هذه المؤسسة والشركة، ولست الآمر والناهي.

ولله المثل الأعلى، نقول لك أيها الأخ الكريم: من أنت حتى تزور وتكفهر ولا تنزجر ولا ترعوي ولا تأتمر بأمر الله ورسوله، {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} [الإسراء:٥٠].

يا من دعي إلى الصلاة فلم يصل! يا من دعي إلى هجر الغفلة فلم يهجرها! يا من دعي إلى مجالس الذكر فلم يحضرها! يا من نصح بالكتاب والشريط فلم يسمع! يا من دعي إلى الهداية فلم يرعوِ! من أنت؟ حجارة لا تدور، أم حديد لا يلين، أم قوة لا تضعف، أم صحة لا يعتريها مرض، أم حياة مخلدة لا يكدرها الموت؟! من أنت؟ أمان لا يفنى، أم كنوز لا تنقضي، أم قوة لا يغالبها أحد؟! من أنت يا من يعصي ربه؟! من أنت يا من يخالف أمر رسوله؟! من أنت يا من لا يتصبر ولا ينقاد لأمر الله ورسوله؟! ثم بعد ذلك تظن أنك بعد إذ خلقت على هذه الحال، أن الله خلقك عبثاً؟! إن فيك ملايين بل مليارات الخلايا التي أمرها الله بتركيب هذا الجسم مذ كنت في رحم أمك -ملايين الخلايا التي تنتج في مصنع الرحم- فخلايا تتجه لصناعة عينك، وخلايا تتجه لصناعة أذنك، وخلايا تتجه لصناعة القدم، والمفصل والركبة والفخذ، وخلايا تتجه لصناعة الرئتين، وخلايا تتجه لصناعة قلبك، وخلايا تتجه لصناعة عظامك، وخلايا تتجه لصناعة سمعك وبصرك وجوارحك وحواسك وأجهزتك وما ضلت خلية عن طريقها، ما رأينا رجلاً ضاعت خلية منه وتاهت طريقها، خلية الأنف ما ضاعت وما تاهت عن الطريق، ما رأينا أحداً نبت أنفه في ظهره، كل خلية في كل إنسان اتجهت لتثبت في هذا المكان، وكل خلية أذن في كل إنسان اتجهت لتثبت في مكانها، وكل خلية في العين اتجهت لتبقى في مكانها، ما ضاعت وما ضلت، ولو أن البشر أرادوا أن يحكموا تدبير الخلايا وتوجيهها والسيطرة عليها والإحكام في أمرها لعجزوا عن ذلك، مليارات من مليارات الخلايا التي يعجز الإنسان عن عدها فضلاً عن أن يتصرف فيها، إن الله جل وعلا قد سخر فيك هذه الكائنات، وأمرها بأن تكون أداة ومادة لتكوينك وخلقك ثم أبدع تصويرك وأحسن خلقك، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:٤]، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:٧٠].

بعد هذا كله أتظن أن الله أبدع وخلق وصور وأحكم وأنشأك ورباك ونماك في هذه الصفة لكي تأكل ما حرم، أو لتسمع ما حرم، أو لتنظر إلى ما حرم، أو لتقول ما حرم، أو لتفعل ما حرم، أو لتترك ما أوجب، أو لتستهزئ بما أمر، أو لتنصرف عما أمر؟ حاشا وكلا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:١١٥] قال الإمام الطبري في تفسيره، يقول جل ذكره: أفحسبتم أيها الأشقياء! أنما خلقناكم لعباً وباطلاً، وأنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا تصيرون أحياء، فتجزون بما كنتم في الدنيا تعملون؟!! قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦] أن يخلقكم عبثاً أو أن يضيعكم، أو بمجرد أن يحييكم ثم يميتكم، لا يرجعكم إليه ليحاسبكم؟ تعالى الله عز وجل وتنزه وتقدس أن يخلقنا ثم يتركنا، ولا يعيدنا ولا يجمعنا مرة أخرى للحساب والسؤال والجزاء.