للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مفهوم عقوق الوالدين وأهمية اتباع أمرهما]

وحقيقة العقوق -يا معاشر المؤمنين- هو مخالفة الوالدين في كل شأن لهما، فلا يجوز لمسلم أن يخالف أمر والديه، بل تجب طاعتهما أياً كانت الظروف، بل لا يجوز تأخير قضاء حوائجهما التي طلبت على الفور إلا بإذنهما أن تقضى بعد الفراغ أو بعد فراغ الابن من حاجته.

فاحذروا -يا عباد الله- كل الحذر من مخالفة أمرهما والتهاون به، ولو كان الواحد منشغلاً بأجل الأعمال وأزكاها، روى البخاري في الأدب المفرد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تكلم مولود من الناس في المهد إلا عيسى بن مريم وصاحب جريج، فقلنا يا نبي الله! وما صاحب جريج؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن جريجاً كان رجلاً راهباً في صومعة له، فأتت أم جريج يوماً فأخذت تناديه وقالت: يا جريج! وكان يصلي، فقال جريج في نفسه وهو يصلي: يا رب! أمي وصلاتي، فرأى أن يؤثر صلاته، ثم صاحت به أمه مرة أخرى: يا جريج! فقال في نفسه وهو يصلي: يا رب! أمي وصلاتي، فرأى أن يؤثر صلاته فلم يجبها، قالت أمه: لا أماتك الله يا جريج حتى تنظر في وجوه المومسات، ثم انصرفت.

وفي ذلك الزمان كان راعي البقر يأوي إلى أسفل صومعة جريج، وكانت امرأة من أهل القرية تختلف إلى الراعي؛ فولدت منه بعد أن زنى بها، فأتي بالمرأة إلى الملك فقال لها: ممن حملت وولدت؟ قالت: من جريج، قال الملك: أصاحب الصومعة؟ قالت: نعم.

قال: اهدموا صومعته وائتوني به، فضربوا صومعته بالفئوس حتى وقعت، ثم جعلوا يده إلى عنقه بحبلٍ، ثم انطلق به، فمر على المومسات فرآهن فتبسم وهو يذكر دعوة أمه يوم أن قالت: لا أماتك الله حتى تنظر في وجوه المومسات، فرأى المومسات وهن ينظرن إليه في الناس، فقال له الملك: ما تزعم هذه؟ قال جريج: وما تزعم؟ قال: تزعم أن ولدها منك، فقال جريج لها: أنت تزعمين ذلك؟ قالت: نعم.

قال: أين هذا الصغير، قالوا: هو ذا في حجرها.

فأقبل عليه العابد فقال: من أبوك؟ فقال الصغير: راعي البقر، فقال الملك: أنجعل صومعتك من ذهب؟ قال: لا.

قال: أمن فضة؟ قال: لا.

قال: فما نجعلها؟ قال: ردوها كما كانت، قال الملك: فما الذي تبسمت له؟ قال جريج: أمراً عرفته، أدركتني دعوة أمي حين كنت في صلاتي يوم أن لم أجبها ثم أخبرهم بقصته) وقال بعض العلماء: ولعل في شريعتهم آنذاك أن الكلام ليس ممنوعاً في الصلاة، وقيل غير ذلك.

وخلاصة الأمر من هذه القصة يا عباد الله! أهمية اتباع أمر الوالدين فيما ليس بمعصية الله، وتوقي سخطهما ودعوتهما على الابن، فإن دعوة الوالد لا ترد، لذا فأوصيكم ونفسي -يا عباد الله- أن تطلبوا من آبائكم وأمهاتكم أن يخصوكم بالدعاء فيما يخصون به أنفسهم، لأن دعوة الوالد لولده مستجابة بمشيئة الله جل وعلا.

واعلموا معاشر المؤمنين: أن ما ذكرناه من الآيات والأحاديث غير وافٍ في شأن الوالدين، ولعلنا أن نتمه في مناسبة قادمة وإنما أحببنا أن ننبه على أهمية طاعتهما والمسارعة بتحقيق ما أمرا به، أياً كان المسلم منشغلاً بأي عمل جليل من الأعمال إلا أن يكون الأمر معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:١٤ - ١٥].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.