للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مجالسة رفقاء السوء]

إن كثيراً من الشباب عهدناهم وعرفناهم أبراراً أغياراً أطهاراً، من الشباب الذين تتمنى أن تكون ذريتك كأمثالهم، تتمنى أن يكون إخوانك كأمثالهم، تتمنى أن تمتلئ الأمة بصلاحهم واستقامتهم، ولكن نفاجأ بأحدهم أنه قد تنكب الصراط، ورجع القهقرى،، ونكص على عقبيه، وارتد مدبراً، وتغيرت أموره، وانتكست مفاهيمه، وتقلبت قناعاته، وأصبح يرى ما كان مكروهاً محبوباً، وأصبح ما يأنف منه يتودد إليه، وأصبح ما كان يستحي أو يأنف من سماعه يتفاخر به.

إن ذلك انحراف كان سببه رفقة تساهل بالجلوس معها وبمخالطتها، وبتفويت بعض الأمور ظناً منه أنها من الصغائر، وما زالت الصغيرة تدعو أختها، فاجتمعت كقشات جمعت فأضرمت، فأصبحت ناراً أحرقت سلوكه، وأحرقت استقامته، وعفافه، وطهارته، فبات فاجراً بعد أن كان براً، وأصبح مفسداً بعد أن كان صالحاً، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

نعم -أيها الأحبة- إن المجالسة كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لها أثر، إذ المرء يتأثر بجليسة، ويصطبغ بفكرته ومعتقده وسلوكه وأعماله، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) رواه البخاري ومسلم.

إن من خالط أشراراً حتى ولو كان تقياً، إن من خالط فجاراً حتى وإن كان عالماً، وأعني بالمخالطة أن يجعل مخالطتهم ديدناً وهجيراً، وأن يجعلها سجية وطبيعة له، أما عالم يخالط فجاراً لينصحهم، أو داعية يغشى فجاراً ليدعوهم، أو مهتد يغشى ضلالاً ليناصحهم، فهذا لا يدخل في الأمر، بل غايته أنه يؤجر، والله عز وجل أمر خيرة من في ذلك الزمن (موسى وهارون) أن يذهبا إلى شر خلقه في ذلك الزمن وهو فرعون، الذي قال: أنا ربكم الأعلى، والذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] أرسلهما ربنا عز وجل وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤].

إنما الممقوت والمنهي عنه أن ترى رجلاً سوياً يخالط فجاراً ينسجم إلى مجالسهم، ويطمئن إلى طرائفهم، وينبسط لنكتهم، يتعود غشيانهم ولا يقاطعهم، يجلس معهم من غير دعوة يقصدها، ولا علم ينشره، ولا هداية يرنو إليها، إنما أعجبه حديثهم، أعجبته طرائفهم وسواليفهم وتعليقاتهم -أو ما يسمى تنكيتاتهم- فأصبح يغشاهم، إن ذلك من أسباب الانحراف الخطرة.

والإنسان يتأثر، ولو أتيت بأتقى الناس وأعلم الناس فجعلته يصبح ويمسي في مجالسة اللاهين العابثين الغافلين المستهزئين الساخرين، وجعلته يجلس بينهم فسوف يتحول إلى مستودع وخزينة معلومات، أما سلوكه وطبائعه وغيرته وحميته وأنفته وحبه، سوف يجمد في قالب إذا واجه هذه الأمور التافهة والخطرة، فجمدت حماسته وغيرت أنفته، وغيرت غيرته.

إذاً فلننتبه، وإن من الأخيار من يتساهل بهذه المجالس.

منذ أيام -ربما لا تتجاوز العشرة أو أكثر- جاء شاب إلى المسجد فقال: إني كنت محافظاً على قيام الليل، وكنت محافظاً على الصلوات في الجماعة، وكنت صادقاً وبراً وغيوراً وخيراً وطيباً، فتقلبت أحوالي تقلباً عجيباً، فقلت: ما الذي تغير أو تقلب من حالك؟ قال: أصبحت أنظر إلى الأفلام والمسلسلات الماجنة، وأسمع الغناء، وأتكاسل عن الصلاة، وربما جمعت الفرض إلى الذي يليه، والفرضين إلى الليل، وإني إذا ذكرت تلك الفترة الذهبية الرائعة الجميلة من أيام حياتي أبكي على ما أنا عليه وما أنا فيه، فيا ترى أي دواء تصفه لي، وأي وصفة تكتبها لي؟ فسألته بالله، والله عز وجل يقول: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:١٤] فسألته بالله وقلت له: أنت أدرى مني بنفسك، ولست أعلم الغيب، ولكن أي أمر في سريرتك أحدثته، أي أمر في خلواتك أحدثته، أي أمر أصبحت تتعود فعله في حال لا يراك فيه إخوانك الصالحون، فقال: إنه أمر واحد، وجدت شلة.

ولا أقول ثلة؛ لأن الله عز وجل قال في السابقين وأصحاب اليمين: ثلة، قال: وجدت شلة أعجبني تنكيتهم وضحكهم ومزاحهم، وتعليقاتهم وكلامهم، فأصبحت أغشاهم، وفي البداية كان الشيطان يقول لي: اذهب إليهم فادعهم إلى الله عز وجل، اذهب إليهم تناصحهم، اذهب إليهم تعلمهم شيئاً يجهلونه.

قال: فما هي إلا أيام بعد أن كانوا في بدايات المجالس إذا دخلت عليهم خبَّئوا ورقهم، وأخفوا منكراتهم، إذ بي أنا أخرج ما يخبئونه لنلعب به، وإذ بي أنا الذي أحركهم ليديروا هذه الأجهزة فنرى صور العرايا ونرى صور الماجنات والخليعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إذاً القضية أنه ما بات باراً فأصبح فاجراً، وإنما هو تنازل بنفسه، ورضي أن يجره الشيطان تحت تلبيس لإبليس، ووسوسة وغواية بحجة شيء اسمه فيما يتوهم دعوه، وفي الحقيقة أنها غواية من الشيطان له، أصبح يتردد عليهم، تعجبه تعليقاتهم، سخريتهم، تصنيفاتهم، عجائبهم، يقهقهون، يضحكون، يشبعون ضحكاً، ثم بعد ذلك يقوم وهو في كل ليلة يهدم بفأس غفلته صلاحه وإيمانه، حتى بلغ به الحال أن أصبح كذاباً بعد أن كان صادقاً، وأن أصبح فاجراً بعد أن كان باراً، وأن أصبح ضالاً بعد أن كان مهتدياً، ومطلقاً لعينه وأذنه في الحرام بعد أن كان لأذنه وعينه حصوراً عن الحرام، والسبب: هي هذه المخالطة! إن بعض الناس لو حدثته عن المجالسة، قال: أنا مستعد أن أعطيك آيات عن الجليس السيئ، وأعطيك أحاديث عن الجليس السيئ، وأعطيك أبيات شعر عن الجليس السيئ، وأعطيك حكماً وأمثالاً عن الجليس السيئ، ولكني أقول: لا تعطني من هذا شيئاً، ولكن أعط نفسك، وأعطني التزاماً بقول الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:٢٨].

إياك ومجالسة الغافلين، إياك ومجالسة اللاهين، إياك ومجالسة الضالين، إياك ومجالسة المنحرفين؛ لأنك لا تزال في بداية الاستقامة، لا تزال حديث عهد بتوبة، لا تزال قريب تجربة بضلالة، فانتبه لنفسك.

أتظنون أن رجلاً يعمل في معدات البنزين والوقود يخرج من عمله ومكائنه وورشته، وقد امتلأت ثيابه بالوقود والبنزين، وأطرافه وجسمه بالوقود والبنزين، ثم يجلس بين المدخنين الذين يشعلون ولاعات النار، من الطبيعي أن يحترق ويقبس هذه النار في جسمه على آثار ما علق به من الوقود، وكذلك الشاب الذي لا يزال قريب عهد بتوبة، وحديث عهد باستقامة، إياك أن تخاطر بنفسك، إذا كنت حديث عهد بالسباحة في الأنهار، فضلاً عن أن تكون سباحاً ماهراً تواجه الأمواج العاصفة في المحيطات، إذا كنت لا تكاد تعرف السباحة فهل من العقل أن تذهب لتنقذ أقواماً غرقى تقلبهم أمواج البحار والمحيطات؟ إن واحداً من هؤلاء الغرقى سيتعلق بثوبك فتكون أنت في أسفل الموج وهو في أعلاه، ولتكون أنت تحت طبقات الماء وهو في أعلاها، بتساهلك أو بحجة أنك تريد أن تنقذه، وأنت يا مسكين، وأنت يا غرير، يا جاهل، يا مغرور، تظن أنك قادر على إصلاحه وأنت لم تزل بعد محتاجاً إلى إصلاح نفسك.

أقبل على النفس فاستكمل محاسنها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

إن جلساء السوء يحرمون الإنسان حتى الفرصة الذهبية، أو الفرصة التي لا تعوض بأمر الدنيا قاطبة، وحسبكم ما ثبت فيما يرويه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى عمه أبي طالب لما حضرت أبا طالب الوفاة، ولكن جلساء السوء لا يتركون أحداً حتى في اللحظات الأخيرة.

دخل صلى الله عليه وسلم يعود عمه أبا طالب، فوجد عنده رأس الكفر أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فلم يلتفت لهم ولم يخاطبهم ولم يقل لهم: لماذا أتيتم تؤذون عمي في اللحظات الأخيرة، جئتم تصدونه، بل أقبل عليه يريد في معركة وسباق مع الزمن أيهما ينفذ أولاً سكرات الموت وخروج الروح، أو وصول دعوة النبي إلى قلب أبي طالب، فبدأ أولاً بعمه، قبل أن يكلم أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقام هؤلاء الشياطين، وقال أبو جهل: أتترك وترغب عن ملة عبد المطلب.

وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يحاول، وهؤلاء الصناديد من الضلال يحاولون إغواءه، وهم ينهون عنه وينئون عنه حتى مات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب، لم يكتف فقط أن يسكت، بل إنما صرح تحت وطأة وتأثير الجلساء لينطق إرضاءً لهم، فيقول مصرحاً: هو على ملة عبد المطلب.

كان بوسع أبي طالب أن يضمرها في نفسه ويسكت، كان بوسع أبي طالب أن يقول كلاماً، كان بوسعه أن يقول لهم: حتى هذه اللحظة لن تنفعوا ولن تشفعوا ولن تقربوا، كان بوسعه أن يقول أموراً بغض النظر هل تنفعه أولا تنفعه، لكن أثر جلساء السوء جعلت هذا الذي ينازع الموت ويحتضر، ويعالج السكرات، جعلته ينطق بما يريد هؤلاء الضلال والطواغيت بالتفصيل، فمات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب.

ولكن إن هؤلاء الذين يضلون بإضلال جلسائهم، وإغواء رفقائهم، هؤلاء يوماً ما سوف يلعن بعضهم بعضاً، ويسب بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، كما قال عز وجل: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٦ - ١٦٧].

والله عز وجل أخبر أن هؤلاء سيندم أحدهم