للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أيقن بالموت عمل له]

والحاصل أن علينا واجبات، ولنا وظائف ومهمات من واجبنا أن نجتهد في بذلها وأدائها والقيام بها، وسرعان ما يُقال: مات فلان، أو دُفن فلان، أو صُلي على فلان، أو دخل فلان المستشفى وأصبح عاجزاً عن الحركة، عجز عن الشراب فسقوه، وعجز عن لبس ثوبه فألبسوه، وعجز عن المشي فحملوه، وعجز عن السير فقادوه، وعجز عن حاجته فساعدوه على قضائها، فقبل فوات الأوان ينبغي علينا أن نتدارك الأنفس، وإنها لصرخات وصيحات، وكلمات وخُطب ومحاضرات، وندوات ونداءات تُوجه لي ولكم، وللذكور وللإناث، وللرجال والنساء.

أفيقوا يا عباد الله! أفيقوا يا عباد الله! عودوا يا عباد الله! أي غفلةٍ أنتم نيامٌ فيها، نغماتٌ تدندن ليل نهار، ومشاهد لا تُرضي الواحد القهار، وسعي حثيثٌ في الدنيا، والموت يطلب هذه النفوس، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

قال الفضيل بن عياض لرجل: [كم عمرك؟ قال: ستون سنة، فقال الفضيل: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يُوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسير ذلك؟ تقول: أنا لله عبدٌ، وأنا إليه راجع، فمن علم أنه لله عبدٌ، وأنه إليه راجع علم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوفٌ علم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئولٌ أعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة يا فضيل؟ قال: يسيرة، قال: فما هي؟ قال: تُحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، وإن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وبما بقي].

نعم.

إنما الأعمال بالخواتيم، إن من فضل الله ومنِّه أن العبد إذا استرجع وندم وآب وتاب وعاد إلى الله راغباً فيما عند الله، راهباً من عذاب الله، فإن الله يُسدل ستره على ما مضى من حياته، ويمحو سيئاته، ويبدلها حسنات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:٦٨ - ٧٠] فما باله؟ ما شأن من تاب؟ ما شأن من غير؟ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٧٠].

اللهم لك الحمد يا حي يا قيوم، يا دائم المنة والإحسان، يا كريم يا عظيم، يا ذا الفضل العظيم، يا واسع يا عليم نسألك اللهم أن تمحو ما سلف من ذنوبنا، وأن تستر ما سلف من خطايانا، وأن تُبدل سيئاتنا حسنات.

إلهنا! إن العباد قد أعجبوا بنا، وإنما أعجبهم فينا سترك علينا -هذا الكلام يقوله كل واحد فينا، ونناجي به ربنا- إلهنا لقد نظر الناس إلى صالح أعمالنا، وما نظروا إلى سيئات خطايانا، وإنك سترتنا وأكرمتنا وأسبغت علينا سترك، وجملتنا بجميل سترك، اللهم فكما سترتنا مع علمك وحلمك وعظمتك، فاستر ما بقي، وأعنا وتب علينا فيما مضى، واجعل اللهم سيئاتنا حسنات.

لن ينفعنا أيها الأحبة إلا أعمالنا.

قال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله) أنت أيها الأخ الكريم وأنا مثلك شأننا في دنيانا بثلاثة أمور: أهل ومال وعمل، أما أهلونا فربما اختاروا غيرنا بعدنا، ربما مات بعضنا فتزوجت زوجته من بعده، وتفرق أبناؤه وأهله، ثم عادوا وتركوه وحيداً فريداً في المقبرة، شريداً رهيناً في حفرته ولحده، ويعود المال، فيختلف الورثة عليه، ويتقاسمونه، ويتحاصّون ويتشاحون، وربما تقاتلوا وتباغضوا وتدابروا، ولحكمة عظيمة قدرها الله جل وعلا أن المواريث تُقسم بالثلث وبالربع وبالثمن وبالسدس، وبأقل وأكثر بتدبير وتقدير من الله، لماذا؟ لأن الورثة إذا دفنوك نسوك، وأخذوا يتقاسمون المال، فالأم تقول: سدسي، أو ثلثي، والأب يقول: سدس، أو أنا عاصب، والأولاد والبنين يقولون: الذكر مثل حظ الأنثيين، أو أخٌ لأم يقول: سدسي، أو جدة تريد سدساً، أو زوجةٌ تريد ربعاً، أو ثمناً، كلٌ يريد نصيبه، وكلٌ قد ودعك ونسيك.

أما عملك فثق أنه لن يُقسم، صلاتك لن تُقسم، صيامك لن يُقسم، عبادتك لن تُقسم، جهادك لن يُقسم، إنما عملك هو الذي يكون لك كله، وأما المال والأهل فما بين متفرق وما بين مقسوم.

أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها

أيها الأحبة! فلنعتبر ولنجتهد، ولنقدم لأنفسنا، عجباً لبعض الناس، يقول: إني أوصيت، أو سوف أكتب وصيتي إذا أنا مت، فسوف يكون من ورائي كذا وكذا، وهو الآن قادر على المال والريال والصحة والبذل، وقد أخر ذلك وسوفه، يا مسكين إذا لم تنفع نفسك وأنت حي، أفتلوم من بعدك بعد أن يدفنوك إذا قصروا بك، لماذا لم ينفعوك؟ ما دمت قادراً فأحسن إلى نفسك.

وذُكر أن أحد الصالحين كان له أبٌ، وكان أبوه ثرياً، فكان هذا الأب يقول لولده، وقد ذهب في ضيعة، أو مزرعة يمشيان في الليل، فقال الأب لولده: يا بني ائتني بالسراج ليضيء لنا الطريق، فقام الولد وجاء بالسراج، فقدم والده أمامه، وجعل السراج خلفه، فقال الأب: يا بني أينفعنا السراج إذا كان خلفنا، إنما ينفعنا السراج إذا أضأته وسرت به بين أيدينا لنبصر به الطريق، فقال الابن: يا أبت فذاك عملك ينفعك إذا قدمته، وإذا أخرته فربما نفعك وربما لم ينفعك.

والغالب في أحوال كثير ممن لا يؤتمنون أنهم لن ينفعوا موتاهم حتى ولو كتبوا أوثق الوصايا، انفع نفسك ما دمت حياً، ولا بأس بالعناية مع هذا بالوصية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٨٠].

الوصية تبرعٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت، والوصية للوالدين، ومن كان وارثاً نُسخت في حقه بآيات المواريث، وآيات أنصباء الورثة والعصبات، ولكن الحاصل أن العبد لا يتكل، فيقول: أوصي، أو أكتب في مالي كذا وكذا، ويتكل على المال، بل اعمل ما دمت قادراً، ما الذي يضيرك إذا كنت تفكر أن تبني مسجداً، أو أن يبنى من مالك مسجداً؟ ما الذي يضيرك أن تبني المسجد وأنت حي، وأن تقف عليه وأنت حي، وأن ترى الناس يصلون فيه، وأن تُصلي أنت فيه، وأن تعتكف؟ ولا تقول: إذا مت فاكفلوا من مالي داعية، أو دعاة، بل ما الذي يضيرك أن يُكفل الدعاة من مالك وأنت صحيح شحيح ترجو الفقر وتخشى الغنى، وترى الدعاة يقبضون رواتبهم من مالك، وهم يسعون مفرغين للدعوة إلى الله يبشرونك في كل يوم أو أسبوع أن قد أسلم بفضل الله ثم بمالك خلقٌ كثيرٌ، ترى بركات وآثار عملك وأنت حيٌ ينفعك بإذن الله.