للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السلف تعلموا العلم ليعملوا به]

أيها الأحبة: ومن الفروق العظيمة التي بين ذلك الرعيل الأول وبيننا في واقعنا هذا، أن أولئك كانوا يأخذون العلم لا للخطابة، أو للمحاضرة أو للندوة أو للمحاورة، أو لتصدر المجالس، أو ليقول الناس عنهم علماء، أو ليشار إليهم بالبنان، أو لتشخصهم الأعيان، وإنما كانوا يتلقون العلم للتطبيق، يلتقون الأمر للتنفيذ، يتلقون النهي لينزجروا مباشرةً: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦] {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:٥١] هكذا كان شأنهم يا عباد الله، وهكذا كان دأبهم أن يتلقوا الأمر لتنفيذه.

نحن في هذا الزمان، الواحد يعلم المسألة والخلاف فيها والأقوال والأدلة، ثم لا يلبث أن يترخص لنفسه برخص المذاهب، أو أن يتتبع الرخص من أقوال الناس، ومن تتبع الرخص في دينه فقد تزندق، هذا يقول: الفوائد الربوية حلال؛ لأن فلاناً أفتى بها.

وهذا يقول: نكاح بلا ولي حلال؛ لأن فلاناً أفتى به.

وهذا يقول: هذا الأمر حلال؛ لأن فلاناً قال به.

ويترخصون في مسائل دينهم حتى لا يبقى لأحدهم مسألة من مسائل الدين يراها حراماً، هذه فيها خلاف، وهذه فيها كذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك).

شتان بين حالنا وحالهم، كان الواحد منهم يعلم قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:٦٦ - ٦٨]، فيعمل لأجل ذلك.

أما نحن -يا عباد الله- فكم تلقينا من الأوامر؟! وكم بلغنا من الزواجر؟! وكم علمنا من النواهي؟! وكم قرأنا من النصوص؟! كم سمعنا في الإذاعة؟! وكم رأينا وشاهدنا؟! وكم درسنا وتعلمنا؟! ولكن:

غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت مسافة الخلف بين القولِ والعملِ

انفصامٌ نكدٌ نقله الأبناء من الآباء، ونقله كثيرٌ من الناشئة، بل أصبحت التربية تقوم على أسس من الانفصام، وذلك لما يرى من تناقض بين ما يتلقاه الناشئة وبين ما يرونه في واقعهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله! بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجلٍ مسمى، ويزدكم قوةً إلى قوتكم.