للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انتصارات صلاح الدين على الصليبيين]

عباد الله: اسمعوا ما يقول ابن كثير: في ضحى يوم الجمعة في الثالث والعشرين من شعبان عام (٤٩٢هـ): دخل ألف ألف مقاتل-مليون- بيت المقدس، وفعلوا بأهله ما تفعله الذئاب في خراف الغابة الضعيفة، ارتكبوا أشنع ما تفعله الشياطين، وظلوا سبعة أيام يقتلون ويهتكون، حتى بلغ القتل في المسلمين أكثر من ستين ألفاً، قتلوا الأئمة والمتعبدين والعلماء، وأصبح الصليبيون يفعلون ما يفعله اليهود اليوم وأشد؛ يحرقون البيوت من أسفلها حتى يلقى السكان أنفسهم من أعاليها على الأرض، سلبوا الأموال، بل وأعظم من ذلك أدخلت الخنازير بيت المقدس، وعلقت الصلبان على المسجد الأقصى؛ بعد أن كان الأذان يصيح بالمآذن بـ (لا إله إلا الله) دقت النواقيس في المآذن وعلقت الصلبان، وأصبحوا يصيحون في المآذن: إن الله ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ما الذي حصل؟ هام الناس على وجوههم، وظن اليائسون أن لا عودة للإسلام إلى بيت المقدس أبداً حتى أذن الله سنة (٥٨٣هـ) بأن يعود المسجد الأقصى إلى المسلمين على يد صلاح الدين، فأعد جيشاً لرد بيت المقدس وتأديب الصليبيين، ثم جاءته رسالةٌ تقول:

يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس

جاءت إليك ظلامةٌ تشكو من البيت المقدس

كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أدنس

فانتخى صلاح الدين وبكى، وأقسم بالله ألا يضحك، وألا يطأ امرأة حتى يعود بيت المقدس إلى المسلمين، حلف بعد ذلك، وأعرض عن النساء، وتناقل ملوك النصارى شأنه وخبره، فتحالفوا بعد أن كانوا في فرقة، واتحدوا بعد أن كانوا في خلاف واجتمعوا، وجاءوا بحدهم وحديدهم، وكانوا ثلاثة وستين ألفاً، فتقدم صلاح الدين إلى بحيرة طبرية، ففتحها بالتكبير والتهليل، ثم استدرج النصارى إلى موقع يريده، فلما وقع النصارى في المكان الذي استدرجهم إليه، لم يصل إليهم قطرة ماء، ثم صاروا في عطش عظيم، وشد عليهم الطعن والطعان، والقتل والقتال، فشاهت وجوههم، ودارت دائرة السوء عليهم عشية يوم الجمعة، واستمرت طيلة السبت الذي كان عسيراً على أهل الأحد، وطلعت عليهم الشمس واشتد الحر وقوي العطش، ثم بدأ صلاح الدين بإحراق النار وإرسال قذائف النار تحت خيل الكفار، تحت خيل الصليبيين في الحشيش، فاشتعل الحشيش الذي كان تحت خيلهم، فزاد اللهيب وزاد العطش واجتمع حر السلاح والتكبير، وقال الخطباء يستنفرون أهل الإيمان ويستثيرونهم بالدعاء، وصاح المسلمون صيحةً واحدةً، وزأرت الأسود في فلسطين زأروا في القدس، واندفعوا كموج عارم مع التكبير، فإذا بملوك الصليبيين أسرى، وجنودهم قتلى حتى قتل منهم ذاك اليوم في المعركة أكثر من ثلاثين ألفاً، وأسر أكثر من ذلك، حتى شوهد الفلاح يقود ثلاثين أسيراً من الصليبيين مقيدين مغلولين يربطهم في طنب خيمته، وباع أحد الفلاحين من فلسطين أسيراً من الصليبيين بنعلٍ يلبسها، وباع ثالث من فلسطين أسيراً من الصليبيين بكلب يحرس غنمه، ثم تقدم صلاح الدين بجيوش الإيمان واستراح قليلاً، وعاد ليكر على الجهة الأخرى من بيت المقدس من الجهة الشرقية وأخرجهم على شروطه: الكبير يدفع عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والطفل ديناران، ومن عجز فيبقى أسيراً في أيدي المسلمين.

نعم أيها الأحبة: جمع من الأسرى أكثر من ستة عشر ألفاً غير من أسر في المواجهة الأولى، ثم دخلوا بيت المقدس، وطهروه من الخنازير والصلبان، وعاد بيت المقدس مأوى للقانتين والقائمين والعاكفين والركع السجود، وجيء بمنبر نور الدين الشهيد الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان الفتح على يد تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر أول جمعة بعد أن عطلت الجمعة والجماعة أكثر من واحد وتسعين عاماً، فبدأ الخطيب بقول الله وهو يبكي: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥].