للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النبي صلى الله عليه وسلم وعنايته بالمسجد]

وقبل أن نخوض في دور المسجد ورسالته نود أن نذكر شيئاً عن مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم وبنائه.

فقد روى أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة مهاجراً، فنزل في علوها في حيٍ يقال له: حي بني عمرو بن عوف، فأقام عندهم أربع عشرة ليلة، ثم إنه أرسل إلى ملأٍ من بني النجار، فجاءوا متقلدين بسيوفهم، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر رديفه، وملأٌ من بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حيثما أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، ثم إنه أمر بالمسجد، قال: فأرسل إلى ملأٍ من بني النجار، فجاءوا فقال: يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم هذا -أي: ساوموني على شرائه منكم- قالوا: لا والله ما نطلب ثمنه يا رسول الله إلا من الله، قال أنس: فكان فيه ما أقول، كان فيه نخلٌ، وقبور المشركين، وخرب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقُطع، وأمر بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: وصفوا النخل قبلةً، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، وهم يقولون:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة

أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود.

فتأملوا وانظروا يا عباد الله! عنايته صلى الله عليه وسلم بالمسجد حيث جعله أول عملٍ بدأ به بعد هجرته من مكة إلى المدينة، وتأملوا مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في البناء معهم بيده الشريفة، فقد ورد في بعض الروايات: (أنه صلى الله عليه وسلم لقيه رجلٌ وهو ينقل اللبن بنفسه، فقال: يا رسول الله! ناولني لبنتك أحملها عنك، فقال: اذهب فخذ غير هذا، فلست بأفقر مني إلى الله) يقوله صلى الله عليه وسلم، قال: (وجاء رجلٌ كان يحسن عجن الطين، وكان من حضرموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأً أحسن صنعته، وقال له: الزم أنت هذا الشغل، فإني أراك تحسنه) فهذه دلالة عظيمة على فضل المساجد وأهميتها، والمشاركة في بنائها بالنفس والمال، ولهذا كان لهذه الآمال أعظم الثواب عند الله سبحانه وتعالى، ففي البخاري وأحمد والترمذي عن عثمان رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة)، وفي روايةٍ: (بنى الله له في الجنة مثله)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى مسجداً صغيراً كان أو كبيراً؛ بنى الله له بيتاً في الجنة) أخرجه الترمذي.

فهذا يا عباد الله طرفٌ من الحديث عن أهمية هذه المساجد ومكانتها وفضيلة عمارتها وبنائها، ولما كانت المساجد بهذا القدر من الشرف والمكانة شُرع للمسلمين نظافتها والعناية بها، وورد النهي عن إحداث الأذى والقذى والقذر فيها، يدل على ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: أنه غضب حتى عرف ذلك في وجهه يوم أن رأى نخامةً في القبلة؛ فشق ذلك عليه، فقام فحكها بيده صلى الله عليه وسلم.

فتأملوا يا عباد الله قيام النبي صلى الله عليه وسلم لحك النخامة بيده الشريفة عن جدار المسجد، فهل بعد هذا يتورع أو يترفع أحد من المسلمين عن إماطة القذر وإزالة الأذى من المسجد حينما يراه، والرسول صلى الله عليه وسلم يزيل الأذى بنفسه، ولم يأمر أحداً بإزالته؟! ويدخل في هذا ما يفعله بعض المصلين حينما يستعمل السواك في فمه، فيتفتت شيءٌ من قطع السواك في فمه فيبصقها أو فيتفلها من طرف شفاهه وهو في الصلاة أو وهو في المسجد على فراش المسجد، وهذا لا يليق، ولا يجوز فعله في المسجد، وإن كنا نراه في كثيرٍ من المسلمين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البصاق في المسجد خطيئة) أخرجه الجماعة.