للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعوة في محاسبة النفس في العام المنصرم]

عباد الله! تأملوا عامكم هذا الذي ودعكم، كم ولد فيه من مولود، وكم مات فيه من حي كم عز فيه من ذليل، وكم ذل فيه من عزيز! كم اغتنى فيه من فقير، وكم افتقر فيه من غني! وكم صار فيه من اجتماع بعد افتراق، وافتراق بعد اجتماع! وكم صح فيه من سقيم، وكم اعتل فيه من صحيح! وكم قامت فيه من دول، وكم انكسرت فيه من أمم! تقلب وتغير وتبدل يطوى في الليالي والأيام، وترحل به الشهور والأعوام، فسبحان المتفرد بالبقاء والدوام.

قيل لنوح عليه الصلاة والسلام، وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً: كيف رأيت هذه الدنيا؟ فقال: كداخل من باب وخارج من آخر، وخطب صلى الله عليه وسلم الناس فقال: (أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين، أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت).

وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: [إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل، إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا].

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [أيها الناس! حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨]].

عباد الله! فلنحاسب الأنفس في عامنا المنصرم، ولنجرأ في السؤال، ولنصدق في الجواب، كيف قضينا ساعاته؟ وفيم أمضينا أوقاته؟ نسأل أنفسنا اليوم، وسنسأل عن هذا غداً، روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

فمن منا أعد لهذا السؤال جواباً؟ والناس أمام هذا الأمر مذاهبهم شتى، أجوبتهم متباينة، فمنهم من أفنى عمره في الدينار والدرهم، أبلى شبابه في مضاعفة ما جمع، بأي سبيل وعبر أي وسيلة؟! قد أفنى عمره في الغفلة والكسل واللهو والعبث، قد غره التسويف وطول الأمل، أما العلم فلم يبالوا بعمل ما علموه، أو تعلم ما جهلوه، بل جعلوا ذلك وراءهم ظهرياً.

وأما المال فلم يألوا جهداً في اكتسابه من أي طريق حل أو حرم، مادامت البضاعة تزجي لهم ربحاً، وتسح عليهم المال سحاً، فتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى خرجوا من الدنيا مذمومين مدحورين، مفلسين من الحسنات والأعمال الصالحات، فاجتمعت عليهم سكرات الموت، وحسرات الفوت، وهول المطلع، فيندم الواحد منهم على تفريطه يوم لا ينفعه الندم، وبعد أن زلت به إلى الموت القدم: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:٢٤ - ٢٦].

ومنهم من ربح عمره، وتزود فيه للآخرة، تزود فيه بطاعة ربه، والتزم بشرائع ربه، وأبلى شبابه في مجاهدة النفس، فعلم وعمل، وصبر وصابر، واكتسب واحتسب، اكتسب المال من حله وأنفقه في محله، فهنيئاً له بالنجاح والفوز والفلاح، يقال له عند ختامه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠].

فمن كان حاله كذلك فليسأل الله الثبات وليلزم، ومن كان غير ذلك فليبادر إلى التوبة والندم، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.