للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تضييع المرء لمن يعول]

أيها الأحبة: لعلكم من خلال هذه الآيات البينات الواضحات عرفتم ما هي البلية التي ابتلي بها كثير من الناس باختياره؛ ألا وهي السهر بالليل، ومكابدة المجالس، ومتابعة المواعيد واللقاءات إلى وقتٍ متأخر لا يأوي الواحد فيه إلى بيته إلا بعد أن يمضي الليل نصفه أو أكثر من نصفه، ثم يعود الواحد إلى بيته وقد طال على أبنائه السهاد، يرجون أباهم أو وليهم أن يقدم عليهم لحظةً أو لحظاتٍ يجلس فيها يسأل عن دروسهم، يتفقد حاجاتهم، يوجههم أو يؤدبهم، يعلمهم أو يربيهم، يمازحهم أو يلاعبهم، يضاحكهم أو يداعبهم، ينتظرون أباهم ليروا ابتساماته مشرقةً في وجه زوجته وأطفاله، ولكن حتى إذا استيئسوا من مجيئه وغلبهم السهاد وأسلمهم الرقاد؛ ناموا يائسين من عودة أبيهم إلا في وقتٍ متأخرٍ من الليل.

فإذا جاء ذلك الرجل أباً كان أو شاباً أو عازباً أو متزوجاً، إذا عاد وقد أسلم القوم أعينهم لنومٍ سبات، جاء وحده يتسلل لواذاً، يلتفت يمنةً ويسرة، ثم رمى بجنبه على فراشه، قد أنهكه الإعياء والتعب والسهر، وأنى له أن يتوضأ قبل نومه بعد سهرٍ طويل، الغالب فيه القيل والقال، وأنى له أن يصلي ركعاتٍ بخشوعٍ وهجوعٍ بعد سهرٍ طويل الغالب فيه الكلام في الأعراض، أو في علان وفلان، وأنى له أن يسجد ويقنت وأن يوتر ويدعو بعد سهرٍ طويل الغالب فيه -إلا من رحم الله- النظر إلى الأفلام والشاشات والمسلسلات عبر مختلف القنوات، فيرمي بنفسه ضجعة الغافلين، فينادى للصلاة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خيرٌ من النوم، فلا تجد إلى أذنه سبيلاً، وأنى لها أن تجد السبيل إلى أذن الساهر اللاهي الغافل وقد ملأ فؤاده وقلبه البارحة بألوان الصور ومختلف الكلمات الساقطة، والعبارات الرديئة، أو الكلام فيما لا يعنيه، أو الاشتغال فيما لا ينفع دينه ودنياه، وأنى لها كلمات النداء أن تجد إلى أذنه وقلبه سبيلاً وقد عقد الشيطان على قافيته عقداً ثلاثاً، وقال له: عليك ليلٌ طويلٌ فنم، وربما جاءت أمه العجوز، أو أمه الفتية، أو والده يوقظانه للصلاة، فيخور كما يخور الثور عند المذبح، يتقلب يمنةً ويسرة، فلا يبرحان يفارقانه، أو لا يلبثان يفارقانه حتى يعود في غطيطه ونومه وسباته، في نومةٍ طويلةٍ سبقتها معصيةٌ أو لهوٌ أو غفلة، ومرت بقعودٍ عن ساعات فضيلة، واكتنفتها معصية وهي ترك صلاة الفجر، تركها إثم عظيم، ولكم أن تحسبوا نسبة الحاضرين الصلوات إلى الذين يشهدونها صلاة الفجر، أين المصلين في صلاة الفجر؟ هل زاغت عنهم الأبصار؟ هل تخطفتهم سهام المنون؟ هل نزلت بهم المقادير فأعاقتهم عن القيام والخروج إلى العبادة؟ أهم من ذوي الأعذار؟

الجواب

لا، ولكنه السهر، ولكنه الحديث الطويل والقيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال، وما أكثر الذين يسهرون! لو دعوا إلى حلقة من حلق الذكر لأبوها، ولو دعوا إلى شفاعةٍ أو نجدةٍ لمسلمٍ لتثاقلوا وقعدوا عنها، ولو دعوا إلى أمرٍ رشيدٍ لسوفوا وعللوا، ولكن السهر للكلام والقيل والقال والسماع والمشاهدة والرؤية وتتبع القنوات والمسلسلات والأفلام تهون فيه الساعات، أما إذا دخل في السهر لعب الورق ذلك الفيروس الذي يسري في دماء بعض الناس سرياناً يجعله يكابد السهر ويغالب النوم ويصارع السنة، وربما غسل وجهه مرتين أو ثلاثاً من أجل أن ينشط على جودة لعبه حذراً من أن يفوقه اللاعبون أو يغلبوه.